Biography

 :قالوا في ابراهيم

كان دائما للاخرين كما يريدونه ان يكون لهم… كان السياسي بامتياز، النقابي بامتياز، الاجتماعي بامتياز، الانسان بامتياز… الفلسطيني مئه بالمئه، الاردني مئه بالمئه

 

What people said of Ibrahim:

He was always to others what they wanted him to be for them… He was the politician par excellence, the syndicalist par excellence, the socialite par excellence and the humanist par excellence… Palestinian one hundred percent, Jordanian one hundred percent

 

A Short Biographical video with English subtitles about the life of

Ibrahim Abu Ayyash 

An English translation of the following biography will follow in the coming months.

ابراهيم في سطور 

عبد الرحمن البيطار

  خلاصة مخطوطة بالاستناد على المعلومات المستقاة من عدد من اللقاءات مشفوعة بتحليل وتنقيح، وبتصرف من الكاتب

المحتويات

١- مقدمة
٢- ابراهيم ابو عياش : نشوءه ونموه على خلفية من الاوضاع بالغة الاضطراب
٣- ابراهيم ابو عياش :أيام الانتظار المضني قبل الالتحاق بالجامعة – من بيت امر الى بيروت
٤- ابراهيم ابو عياش : سني الحياة الجامعية – من ١٩٥٤ الى ١٩٥٩
٥- ابراهيم ابو عياش : رحلة العمل المهني لابراهيم بعد التخرج من الجامعة الامريكية في بيروت
أ – المرحلة الأولى من العمل المهني : السنوات من ١٩٥٩ حتى ١٩٦٦
ب – المرحلة الثانية من العمل المهني :السنوات من ١٩٦٦ حتى ٣ حزيران ٢٠١٣
٦- ابراهيم ابو عياش : الزوج والأب
٧- ابراهيم ابو عياش : النقابي والسياسي

<><><><><><><><><><><><><><>

١- مقدمة
أُخضِعَت فلسطين بعد استقطاعها من جسم سورية الطبيعية بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى ونجاح الجيش البريطاني باحتلال فلسطين بقيادة الجنرال أللنبي في ٩ كانون أول ١٩١٧، ووضعت تحت الانتداب البريطاني بموجب قرار صدر عن عصبة الامم في ١١ ايلول عام ١٩٢٢. وكان تقسيم سورية الطبيعية -التي كانت قبل انتهاء الحرب الكونية الأولى ترزح تحت الحكم العثماني منذ احتلالها من قبل قوات السلطان العثماني سليم الاول في حزيران من عام ١٥١٦- بين كلٍ من فرنسا وبريطانيا، الدولتين المنتصرتين في تلك الحرب، قد تم بموجب أحكام اتفاقية سايكس بيكو التي عُقِدَت سراً فيما بينهما في أيار ١٩١٦قبل أسابيع قليلة من إعلان شريف مكة؛ الشريف حسين بن علي، بتاريخ ١٠ حزيران ١٩١٦ ثورة العرب على الحكم العثماني ومساعدة قوات الحلفاء ضد دول المحور خلال الحرب الكونية الأولى التي كانت قد اندلعت في عام ١٩١٤. وكان قرار عصبة الامم بفرض الانتداب البريطاني على فلسطين قد قضى بأن تسعى سلطات الانتداب لتحقيق ما ورد في إعلان بلفور- وزير خارجية بريطانيا الذي صدر في ٢ تشرين الثاني ١٩١٧ بتسهيل هجرة اليهود الى فلسطين وإتاحة الظروف لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.

وعليه، فقد امتدت فترة الانتداب البريطاني على فلسطين من أيلول ١٩٢٢ حتى ١٥أيار ١٩٤٨، – سبقتها حوالي اربع سنوات من الاحتلال – قامت خلالها سلطات الانتداب البريطاني وقواتها المحتلة بإتاحة كل السبل لتسهيل هجرة يهود العالم وعلى الاخص يهود أوروبا وأمريكا الى فلسطين، وتسهيل عملية انتقال الأراضي والممتلكات الفلسطينية اليهم، وتشريع إقامة هؤلاء المهاجرين، والسماح لهم بإقامة بنية سياسية وتعليمية وصحية، واجتماعية واقتصادية وعسكرية، ومستوطنات سكانية، يهودية بالكامل، على الأرض الفلسطينية الموضوعة تحت سلطة ذلك الانتداب بريطانية.
قاوم الفلسطينيون، سكان الأرض الطبيعيين، عملية السيطرة على مقدراتهم والتصرف بممتلكاتهم ونقلها الى المستوطنين الصهاينة ، ورفضوا كافة الإجراءات التي اتخذتها سلطات الانتداب لإقامة الوطن القومي اليهودي على أراضيهم.
كانت ثورة ١٩٣٦ واحدة من اهم الثورات التي قام بها الشعب العربي الفلسطيني ضد قوات وسلطات الانتداب البريطاني من جهة وضد المستوطنين اليهود ومستعمراتهم ومؤسساتهم من جهة اخرى، ونادوا خلال الثورة بوقف العمل بالسياسات التي تسمح وتسهل عملية إقامة وطن قومي يهودي على أراضيهم، وطالبوا بإقفال الأبواب أمام استقبال المهاجرين اليهود وإيقاف عمليات نقل ملكية الأراضي الى المهاجرين اليهود،ودعوا الى إقامة حكومة وطنية مسؤولة أمام برلمان منتخب بصورة ديمقراطية.

٢- ابراهيم ابو عياش ؛ نشوءه ونموه على خلفية من الأوضاع بالغة الإضطراب

كان الإضراب الكبير قد عمَّ فلسطين من أقصاها الى أقصاها تلبيةً للدعوة التي انطلقت من نابلس ويافا في ٢٠ نيسان ١٩٣٦ وإلاعلان الذي صدر في القدس بإنشاء ” اللجنة العربية العليا” في فلسطين بعد خمسة ايامٍ من هذا التاريخ.

جاءت هذه التطورات بعد اشتداد مقاومة الفلسطينيين المسلحة لقوات سلطة الانتداب في ضوء الازدياد الهائل، الذي َسهَّلَت تلك السلطة حصوله، في اعداد المهاجرين اليهود الى فلسطين وعلى الأخص منذ عام ١٩٣٣، حيث ازدادت أعداد المهاجرين اليهود من ٩٥٥٣مهاجر في عام ١٩٣٢ الى ٣٠٣٢٧مهاجر في عام ١٩٣٣مهاجر الى ٤٢٤٥٩ مهاجر في عام ١٩٣٤ الى ٦١٨٥٤ مهاجر عام ١٩٣٥ ، وكذلك في ضوء اتساع السيطرة المنهجية للمهاجرين اليهود على الاقتصاد الفلسطيني ومع ظهور بنية مدنية وعسكرية صهيونية في فلسطين . وقد جاء الازدياد في أعداد المهاجرين اليهود الى فلسطين في تلك الفترة على خلفية الصعود النازي للحكم في ألمانيا.

كانت المعارك مع المقاومين الفلسطينيين والعرب على أرض فلسطين قد اتسع نطاقها واذدادت حِدَّتَها منذ استشهاد القائد عز الدين القسام في معركة حامية الوطيس وقعت عند قرية يعبد في ٢٠ تشرين ثاني ١٩٣٥. ففي الاسبوع الذي انتهى باعلان الاضراب ، حصلت عمليات مقاومة متعددة في منطقة طولكرم – نابلس بقيادة المناضل فرحان السعدي، انتشرت لتتحول الى مواجهات واسعة بين الفلسطينيين والمستوطنين اليهود في مدينة يافا، حيث قام ما يقرب من الألف مستوطن يهودي من مستوطني ” شابيرا” القريبة من تل أبيب بمهاجمة حي ” أبي كبير” في يافا، وأشعلوا فيه النيران، وتمثل رد عرب يافا في تظاهرات ضخمة اصطدموا فيها بالشرطة أوقعت عددٍ من القتلى، وعقب لقاءٍ لم يسفر عن نتيجة بين ممثلي العرب والمندوب السامي البريطاني، تم تشكيل لجنة للإضراب ودعوا جميع سكان البلاد الى الإعلان عن إضراب شامل، اضطرت سلطات الانتداب على أثرها الى إعلان حالة الطوارئ وتطبيق إجراءات منع التجول في مناطق واسعة من فلسطين . لقد امتد الإضراب لمدة ١٧٨ يوماً متواصلاً وشَهِدَت أيام الإضراب إعلان حالة العصيان المدني حيث تم إيقاف نشاط جميع وسائط النقل العمومية والخاصة ووضع جميع الباصات والشاحنات وسيارات الأجرة تحت تصرف اللجنه الوطنية للإضراب واعلن ملاحي ميناء حيفا ومستخدموها توقيفهم عن العمل وصدرت النداءات بالمطالبة بالكف عن دفع الضرائب. اما المعارك فلم تتوقف خلال فترة الإضراب بل توسعت وانتقلت الى أماكن كثيرة من أرض فلسطين.

كانت أصداء معركة حلحول التي جرت في ٢٦ أيلول ١٩٣٦فيما بين الثوار وقوات الانتداب لا زالت تتردد في أرجاء جبل الخليل ذلك أنَّ المسافة ما بين حلحول و بيت امر لا تزيد عن ستة كيلومترات . غير أنَّ الأُمور في جبل الخليل وعموم فلسطين كانت قد اخذت تتجه نحو نوعٍ من الهدوء عقب تلك المعركة وذلك بعد النداء الذي وجهه ملوك ورؤوساء الدول العربية للهيئة العربية العليا في فلسطين في ١٢ تشرين أول ١٩٣٦ لإيقاف الإضراب وإمهال أصدقائهم البريطانيين فترة معقولة لإثبات حسن النية وتلبية مطالب الثوار.

في ذلك الشهر بالتحديد وفي اليوم الثاني والعشرين منه على وجه التعيين، أي في ٢٢ تشرين أول ١٩٣٦، رُزِقَ عبد الحميد ابو عياش بطفلٍ أسماه ابراهيم . لقد جَلَبَ هذا النبأ حبوراً وبهجة للعائلة وأهالي القرية بعد شهور الإضراب الطويلة التي عاشتها بيت أُمَّرْ وكل فلسطين.

كان عبد الحميد قد تزوج من بنت القرية جميلة ابو ماريا وهو في الرابعة والعشرين من العمر، اما جميلة فكانت حينئذٍ قد بلغت العشرين. كانت جميلة تتمتع بشخصية كاريزمية جذابة، وذكاءٍ جَلَيْ، وحسٍ بالمسؤولية مجبولة بخفةِ ظلٍ وروح مَرِحَة. كانت قوية البنية، عزيزة النفس، كريمة. كانت قادرة على حلب تسعين نعجة بلا كلل. لقد تأثر ابراهيم بأُمِّه، والتي نجحت في زراعة الكثير من عناصر شخصيتها في شخصية ابنها ابراهيم.
أما عبد الحميد، فقد كان يعمل في تلك الفترة موظفاً لدى حكومة فلسطين المعينة من قِبَل سلطات الانتداب البريطاني بوظيفة ‘مأمور حراج ‘، مسؤولاً عن بعض حراج منطقة جبل الخليل. وبالإضافة الى وظيفته تلك، كان يعمل عبد الحميد ابو عياش في الزراعة وتربية المواشي في أراضٍ تعود ملكيتها لعائلة ابو عياش ، أما العائلة، فكانت تقيم في بيت مؤلفٍ من ثلاث طبقات، أي بيت ” بعلالي” كما اعتاد فلاحوا بيت أُمَّر تسميته في ذلك الوقت، خُصِّصت الطبقة الأولى منه كحظيرة يتم إيداع الأغنام فيها، ومستودعاً للمواد والأدوات المستعملة في الزراعة ولتخزين المحاصيل الصيفية لاستعمالها من قبل العائلة خلال فصل الشتاء. اما الطبقتين الثانية والثالثة، فكانت تضم عدداً من غرف النوم مخصصة لأفراد العائلة ، كما هُيئَ فراغٌ في عُلِّيةِ الطبقة الثالثة من البيت لإقامة ضيوف العائلة لدى زياراتهم لها.

كانت العائلة تستعين بعددٍ من الأفراد من فلاحي بيت امر وقراها المجاورة في القيام بمهام فلاحة الأرض وزراعتها. بعضٌ من هؤلاء بقوا في خدمة العائلة لسنوات طويلة. أما جميلة، فكانت بين آونة وأُخرى تستعين في القيام ببعض المهام المنزلية بحسين اليطّاوي، او أحمد الحلحولي أو بإحدى نساء القرية لإنجاز مهام غسيل الملابس وعلى الأخص بعد أن ازداد الحِمْل والأعباء مع ازدياد عدد أفراد الأُسرة.
كانت عائلة عبد الحميد عندما رُزِق بإبراهيم تتكون من أربعة ذكور( بدوي، احمد، محمد ويوسف – توفي طفلاً عن عمر اربع أو خمس سنوات) وانثيين ( عزيزة ، وصافية- توفيت رضيعاً- ) ، وسرعان ما نمت الأسرة خلال عشر سنوات الى تسعة أفراد ( خليل،،غزلان، غزالة ويوسف) بعد أن فقدت اثنين من أفرادها .

كان أولاد العائلة الصغار من ذكورٍ وإناث يعيشون في فراغات الطبقة الثانية من بيت العائلة. اما الأولاد الأكبر سناً، فكانوا يعيشون في الطبقة الثالثة من البيت.

امتلكت عائلة ابو عياش أراضٍ في قرية بيت أُمَّر ومارست العائله بأفرادها زراعة محاصيل مختلفة ( اشجار فواكة متنوعة وانواع متعددة من الخضروات) كان يتشارك أفراد العائلة في زراعتها والمحافظة عليها والعناية بها وقطف ثمارها، والتصرف بالمنتجات وبيعها، كما كانت تمتلك قطيعاً من الأغنام أوكلت رعايته لعددٍ من الرعاة الذين كانوا يعملون لدى العائلة مقابل أجرٍ محدد. وكان أفراد العائلة، ومنهم ابراهيم يشاركوا في زراعة أراضي العائلة وفي قطف ثمارها وفي نقلها ، ولم يتردد في قضاء بعض الوقت في رعي مواشي العائلة عند تغيب الرعاة.

اعتادت العائلة أو عددٍ من أفرادها أن تنتقل مع مواشيها في فصل الربيع الى منطقة برّيّة قريبة من بيت أُمَّر تبعد عنها بضعة كيلومترات ُتدعى عزبة ‘ المزيرعة ‘ لقضاء عددٍ من الأيام أو أسابيع قليلة، وكان أفراد العائلة يقيمون خلال تلك الرحلات في مغاور هـُيّئت لهذه الغاية، وكانت تُعرف تلك الرحلات بالتعزيب، وفي إحدى الرحلات، افتقدت شقيقة ابراهيم -التي كان ابراهيم في ُعهدتها آنئذٍ – شقيقها، وهي تنتقل من منطقةٍ حرجية الى أُخرى، ولم تجده. كان ابراهيم في ذلك الوقت لم يكن قد بلغ الثالثة من العمر. وقد استنفرت القرية ، رجالاً ونساءً، بحثاً عن الطفل ابراهيم، وشارك ثوّار منطقة جبل الخليل في البحث عنه الى أن وجدوه بعد نحو أربعين ساعة مستلقياًعند جذع أحد أشجار الحُرْج. اصبح ابراهيم منذ تلك الحادثة معروفاً للجميع وموضع اهتمام سكان القرية.

لم يتسنى لعبد الحميد ابو عياش ان يتلقى العلم في مدرسة مؤهلة للقيام بهذه المهمه، فلم يكن في بيت أُمَّر مدرسة في ذلك الوقت، لكن شغفه بالعلم ومحبته له دفعه لتعلم القراءة والكتابة على يد كُتّاب القرية. لم يُعْرَفْ عن عبد الحميد التعصب والانغلاق. كان ليبرالياً في نظرته الى الحياة. كان يعامل زوجته وبناته بذات الطريقة التي كان يتعامل فيها مع أبناءه الذكور. لم تتحجب او تتنقب أيٍ من بناته. كُنَّ يُمارسنَ العمل في المنزل كما يُساعِدن في شؤون الحقل ومتطلباته. كُنَّ يستقبلن أصحاب العائلة من الذكور على نحوٍ طبيعي بلا تكلف ولا تعصب. كُنَّ يَسْتَقْبِلنَ صديقاتهنَ في البيت ويزورهنَّ في بيوتهنَ دون معارضة او تَحَرُّج من أيٍ من ذكور العائلة. طالما كانت جميلة تعترض على رأيٍ او موقف لزوجها عبد الحميد دون ترددٍ او خوف. كانت تعامل الجميع باحترام، وتوفر للجميع جوا من حرية إبداء الرأي. تلك هي البيئة التي ترعرع في جَنَباتها ابراهيم وكَبُرْ.

كان عمل عبد الحميد ابو عياش مأمور حراج لدى سلطة الانتداب يستدعي أن يصرف قدراً غير قليل من وقته ولأيام متواصلة خارج البيت. كان يَمضي عبد الحميد الى عمله كل يوم على ظهر فَرَسه، أطلق عبد الحميد على فَرَسه لقب ” الشهباء”، وكانت الشهباء وصاحبها على علاقة وثيقة بعضهما ببعض . اما الفرس ، فكان موضع اهتمام ومحبة ورعاية جميع أفراد العائلة. وقد استمر عبد الحميد في مهنته تلك حتى عام ١٩٦٢. وبعد انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين في منتصف ليلة الخامس عشر من أيار ١٩٤٨ وتَمَكُّنْ اليهود الصهاينة من اغتصاب الجزء الأكبر من الأرض الفلسطينيه، وإعلان إنشاء كيانهم الصهيوني عليها ، وبعد ضم أراضي الضفة الغربية من نهر الاردن الى الاردن وإعلان وحدة الضفتين في نيسان من عام ١٩٥٠.

اما والدة ابراهيم ؛ “جميلة ابو ماريا” ، فهي تنتمي لإحدى عائلات بيت أُمّر المعروفة وكان جدّها ” سلامة علي دودين ” يتولى منصب ‘ حاكمٍ ‘ للمنطقة إبّان الحكم العثماني ، وبالرغم من انها لم يتسنى لها تلقي أية درجة من التعليم، حيث لم يكن ذلك متاحاً للإناث في المنطقة التي تعيش فيها في ذلك الوقت ، إلا انها كانت تؤمن بأهمية التعليم، وقد َشجّعت بناتها لتحصيل أيِّ قدر من التعليم ُمتاحٌ لفتيات القرية في اربعينيات القرن الماضي ، وقد بَزَغَت تلك الفرصة مع افتتاح اول مدرسة للبنين في بيت أُمَّر في أواسط الثلاثينات من ذلك القرن، ولم يمانع وجهاء القرية آنئذٍ من مشاركة الأطفال الإناث الراغبات في التعلم- وكان عددهم ضئيلاً- ذكور القرية من الأطفال الغرف الصفّيَّة لتلقي التعليم الابتدائي الأساسي في مدرسة الذكور وبالإختلاط معهم. وعليه، فقد تلقت اثنتين من بناتها تعليماً اساسياً في مدرسة ذكور بيت أُمَّر المختلطة قبل ان ينتهي الأمر في عام ١٩٤٥- ١٩٤٦إلى افتتاح مدرسة مستقلة في القرية خُصِّصَت لإناثها ضَمَّت في تلك السنة العديد من بنات القرية .

أمَّا مُدَرِّسات المدرسة، فكُنَّ من خارج منطقة الخليل ( السيدة ميسر حمدان من جنين، وكفا عبد الهادي من نابلس)، وقد مَدَّت عائلة ابو عياش كل المساندة للمَُدرِّسات أثناء قيامهنَّ بمهمتهنَّ الجليلة ، وكانت تستضيفهنَّ في رحاب بيت العائلة. ولا يتركنهن وحيدات في مكان إقامتهن في المدرسة أيام البرد الشديد. وكثيراً ما كان ابراهيم ينقل لهنَّ الطعام الطازج المطبوخ من قِبَلِ والدته وبناءً على تعليماتها.

أما مدرسة ذكور بيت أُمَّر ، فقد كانت قد أُقيمت في القرية خلال عامي ١٩٣٣- ١٩٣٤ وكان أرقى صف فيها الرابع الابتدائي وتطورت المدرسة بحيث اصبحت مع النصف الثاني من الاربعينيات تتيح لطلبتها تحصيل التعليم للسنوات الدراسية الأساسية السبعة ، وكان نظام التعليم القائم آنئذٍ مقتبسٌ من النظام البريطاني، الذي ينتهي بتحصيل الطالب الشهادة المسماة ” شهادة المَتْرِكْ ” بعد اجتيازه امتحاناً عاماً ينعقد كل عام بعد قضاء الطالب اربع سنوات إضافية بعد اجتياز مرحلة التعليم الأساسي. وكانت استحواذ الطالب على شهادة المترك يسمح له بالالتحاق بنظام الدراسة الجامعي في الجامعات البريطانية واستكمال تعليمه العالي.

تولى بدوي ابو عياش( مواليد ١٩٢٨)، وهو الابن البكر لعبد الحميد، خلال فترة غياب والده عن البيت ، إدارة شؤون العائلة، وممتلكاتها، وقام مقام الأب بصورةٍ واقعية. تَعلَّمَ بدوي القراءة والكتابة على يد كُتّاب القرية وأبدى مهارة وسرعة في التعلم. أما مداخيل العائلة من ناتج المحاصيل الزراعية وتجارة المواشي، والدخل المتحقق من رواتب وأجور أفرادها، فقد كان يُودَعُ في صندوقٍ مركزي ، كان بدوي يتولى إدارته، والتصرف به بما يلبي احتياجات الأسرة والتزاماتها من جهة وحاجات كل فردٍ منها من جهة اخرى. لم يكن في بيت أُمَّر صالون حلاقة في ذلك الوقت، مما جعل بدوي مضطراً ليُعْمِل مقصَّ الحلاقة بين فينةٍ وأخرى في رؤوس أشقاءه.

تولت أم بدوي وابنتها عزيزة( مواليد ١٩٢٦) العناية بشؤون البيت وأفراد العائلة، اما الوجبة الرئيسية فكان يتم طهيها في فترة ما بعد الظهر وكانت افراد العائلة يجتمعون لتناولها مساء كل يوم بعد عودتهم من الحقول، او بعد انتهاء الدوام المدرسي. وكان ابراهيم يحظى من والدته بقدرٍ أكبر من الرعاية والاهتمام، وقد اصبح ذلك الأمر معروفاً في أوساط العائلة ، وتعزز هذا الوضع وذلك بعد شعور الوالدة بأنها كادت تفقد ابنها ابراهيم عند ضياعه في الحرج القريب من القرية كما سبق ذكره.

لم يستقطب ابراهيم اهتمام والدته فقط ، ولكنه كان يحظى بمركز خاص عند عمّه ، والذي كان يحمل اسم “ابراهيم” ايضاً. كان عم ابراهيم شخصيةً معتبرة في أوساط قرية ” بيت أُمَّر ” ولدى بدو المنطقة وقد كان قد عاش حقبة من عمره في أوساطهم ، وكان يتولى القضاء في أمور النزاعات بين سكان القرية من فلاحين وبدو حيث كان مقر إقامته في القرية يُعتبر بمثابة قاعة محكمة ومضافةً يستقبل فيها ضيوفه او الأفراد الذين يحتكمون اليه. أمًّا ابراهيم، فكان يقضي قدراً محترماً من وقته في كنف عمّه، وقد أخذ من عمه ليس فقط الحكمة وخصال القاضي في القدرة على توزين الامور والفصل في النزاعات ، بل تعلم منه الإفراط في شرب القهوة، وتدخين الهيشي والغليون وهو لم يتعدى من العمر سنوات عشر.

لم يكن ابراهيم شغوفاً بالطعام في صغره، وقد جعل ذلك لون بشرته يميل للصفار مما جعل والدته ُتنَقِّبَه ب” الأصفر”. وقد أمسك به هذا اللقب طيلة فترة طفولته في بيت أُمّر، وبقي ابراهيم مُقِلاً للأكل طيلة حياته ، وقد تمتع بقامةٍ ممشوقة، وكان وسيماً وخفيف الظل، استرعى على الدوام اهتمام بنات قريته. كان مُحباً للسهر، ولُعْب ورق الشدًّة، وكان اجتماعياً وقد شارك أقرانه من أولاد القرية وزملائه في مدرسته لعب كرة القدم .

التحق ابراهيم بمدرسة القرية في عام ١٩٤٢. لم تكن الحرب الكونية الثانية قد انتهت آنئذٍ، وكانت البلاد برمتها إبّان تلك الحرب تمر بظروف اقتصادية صعبة زادت من شظف العيش وصعوبة تأمين أساسيات الحياة على كل طبقات المجتمع وشرائحه.

اجتاز ابراهيم سنوات الدراسة الأساسية في صفوف مدرسة القرية بنجاحٍ وتفوق، وكان لمّاحاً ذو عزمٍ وتصميم ، اجتذبت نباهته وفطنته وذكاءه اهتمام مُدَرّسيه وأقرانه من الطلبة. وكانت المدرسة بإدارة الاستاذ هاشم العناني، وكان من أساتذته كايد عبد الحق ( وكان ينتمي لعصبة التحرر الوطني الشيوعية وهو من نابلس) وإبراهيم النعيمي ، أما عدد طلبة الصف الواحد في ذلك الوقت فكان محدوداً لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة. لم تكن بيت أُمَّر موصولة في ذلك الوقت بشبكة كهرباء، وكان الطلبة يدرسون على ضوء قناديل الزيت او الشموع.

كان ابراهيم دمثاً، خفيف الظل سهل المعشر، تمكن من بناء علاقات متينة مع أقرانه من أبناء القرية. كان منذ طفولته يُحب قراءة كتب الأدب، ويسعى من خلال مُدَرِّسيه لاقتناء كتبٍ لشكسبير وبعض روائع الأدب الانجليزي. كان مُرْهَف الشعور وتمتع دوماً باهتمام خاص من رجال القرية ونساءها. كانت العائلة تتمتع بوضعٍ ماديٍ مريح نظراً لتنوع وتعدد مصادر دخلها. كان ذلك يسمح للعائلة باستضافة صديقات شقيقاته ومعلمات المدرسة والطالبات القادمات من القرى المجاورة. حاز إبراهيم على اهتمام البنات في قريتة منذ سنوات مراهقته، وكان جريئاً لا يتردد في التعبير عن مشاعره تجاههن بوسائل مختلفة.

اما ” بيت أُمّر “، القرية الوادعة الواقعة في الجزء الشمالي من جبل الخليل على ارتفاع يقارب الف متر، فكانت قرية زراعية بحق ذات أراضٍ واسعة تزيد عن ثلاثين الف دونم وتتمتع بجمالٍ طبيعي خلاّب ، يعمل سكانها البالغ عددهم آنئذٍ ( منتصف الثلاثينيات)ما ينوف عن ١٠٠٠- ١٢٠٠مواطن في الزراعة وفي تريية ورعي الماشية.

كان مجتمع القرية تتنازعه بيئتين؛ بيئة زراعية صرفة، وبيئة بدوية، وكان أهالي القرية عندما يتسامرون، يتناقلون حكايات كثيرة عن تاريخ بيت أمر، وعن أنَّ جامع القرية الذي يستقبل المصلين في غرفتي الطابق العلوي منه وفي ساحته المكشوفة ، يضم رفات ” متَّى ” والد ” النبي يونس” وذلك في الطبقة الأولى من الجامع ، وأنَّه لهذا السبب فإنه يحمل مسمى “جامع النبي متّى “، وعن أن عمر بن الخطاب كان قد مرَّ بالقرية عند زيارته للقدس قبل أكثر من أربعة عشر قرناً.

اشتهرت القرية بينابيعها المتعددة؛ عين كوفين وعين مَرّينا وعين الفريديس وعيون العرّوب الواقعة ضمن أراضي بيت أُمَّرْ. وقد وفَّرت تلك الينابيع للقرية ونشاطات سكانها الزراعية كل احتياجاتها من المياه . كما وَفَّر الحُرْش الذي أقامه أحمد سامح الخالدي في منطقة قرية بيت امر مجال الإستشفاء لمرضى الأمراض الصدرية . وقد أُقيم على جزءٍ من أراضي القرية ايضاً معهداً تعليمياً زراعياً نموذجياً على غرار مدرسة خضوري الزراعية المعروفة في طولكرم ، وكذلك مستشفىً أقامته بعثة تبشيرية سُمِّيَ ” مستشفى ألِّمبي ” للأمراض الصدرية ،وقد جعل هذا الأمر من القرية محطة إقبالٍ للفلاحين من المناطق المجاورة وكذلك سبباً من أسباب استقرارها ونموها المضطرد.

كما ان ذلك شكًّل عاملاً أثار شهية المستوطنين اليهود ومؤسساتهم المالية ودفعهم منذ أواخرالعشرينات من القرن الماضي الى العمل على الاستيلاء على أراضي القرية بكل الأساليب والأشكال، وقد أعانتهم سلطات الانتداب في السيطرة على مساحات واسعة من الأراضي الميرية والتي استغلوها في إقامة مستعمرة كفار عصيون في الجزء الشمالي من أراضي القرية . لم تكن ينابيع القرية مجهزة بمضخات مياة ، وقد استدعى ذلك ان يقوم فتيان القرية وفتياتها لنقل المياه لاستعمالات السكان بالجرار والتنك وباستخدام البغال والحمير . وكان ابراهيم يشارك شباب القرية في هذه النشاطات.

كان لمناخ بيت أمر وجوَّها العليل، ومذاق مياهها العذبة الصافية ببرودتها الطبيعية، وحبات العنب والخوخ والبرقوق والتفاح والتين والبندورة والزيتون، و….. مواضع عزيزة عند ابراهيم في مبنى ذاكرته وتكوين وعيه. كانت كل تلك الأشياء الصغيرة تحمل اليه معنى الوطن والفلاح والأهل وتعزز تعلقه بكل ذلك.

اما المستعمرة ” كفار عصيون”،فقد كانت في الواقع مجمعاً لعدة مستعمرات صهيونية ، فقد مارس فيها المستوطنون زراعة انواع من محاصيل الفواكة والخضروات جديدة على المنطقة باستعمال أساليب زراعة، وأنظمة ري، ومعدات حراثة وتحصيد لم تكن معروفة لفلاحي بيت أمر في ذلك الوقت، وباستخدام أدوات لقطف وجني الثمار، وطرق تجميع وفرز، وتعليب، ووسائل لتطعيم وتركيب الأشجار وللتعامل مع الآفات الزراعية والحشرات والأمراض. كانت تتوفر للمستعمرة الكهرباء التي كان يتم توليدها من خلال مولدات تعمل بالديزل . لقد دفع هذا الامر فلاحي بيت أُمّر لمراقبة ما يحصل في المستعمرة بعيون مفتوحة وبشهية للتعرّف والتعلم.

كان فلاّحوا بيت أُمّر يراقبون ما يحصل في المستعمرة القريبة من قريتهم عن بُعد، فالمستعمرة مُقامة على جزءٍ من أراضيهم. كانوا يشهدون كيف تتوفر للمستعمرة كل الإمكانات المالية والتكنولوجية ووالخبرات الفنية كي تنمو وتتوسع في حين أنهم، وهم أبناء المنطقة منذ الأزل، محرومون من كل أسباب النمو والتطور، . لقد عمَّقت هذه المفارقة شعور فلاحي بيت أُمَّر بالظلم وبالقهر وزادت من حِدَّةِ حقدهم على المستوطنين وسلطات الانتداب التي تساعدهم.

تتابعت أحداثٌ جسام خلال فترة دراسة ابراهيم في مدرسة قريته، فقد انتهى اليه خبر انتهاء الحرب العالمية الثانية في عام ١٩٤٥بانهزام ألمانيا الهتلرية . تذكر حينها انه كان هو وزملائه من الطلبة وأطفال القرية يتبارون ايضاً في ساحات المدرسة ويلعبون لعبة الحرب بأن يتوزعوا الى معسكرين. لقد انتصر معسكر الحلفاء. كان يَرِد الى مسامعه ان هجرة اليهود الى فلسطين قد ازدادت حدةً وصعوداً خلال تلك الحرب وبسببها. كان الكبار في القرية يزدادون توجساً وقلقاً مع مرور الأيام .

كانت عائلة ابو عياش الوحيدة التي مَلَكَت مذياعاً في ذلك الوقت . وكان رجال القرية يقضون بعضاً من أُمْسياتهم في ذلك البيت، وكان المذياع يعمل على بطارية سيارة تحتاج للشحن باستمرار. كانوا يستمعون لنشرات الاخبار التي تبثها إذاعة القدس ، وإذاعة لندن وإذاعة القاهرة . كان ذلك أحد أهم مصادر الحصول على أخبار التطورات التي تعصف بفلسطين وبدول المنطقة.

أخذت الأخبار تتوارد عن الأحداث المتسارعة في فلسطين منذ العام ١٩٤٧، فقد اتخذت جامعة الدول العربية بتاريخ ٧ تشرين أول ١٩٤٧ قراراً بتشكيل لجنة عسكرية عربية لمتابعة التطورات على الأرض، وفي ٢٩ تشرين الثاني ١٩٤٧ صدر قرار عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بتقسيم فلسطين الى دولتين ؛ يهودية وعربية مع وضع منطقة القدس تحت الإدارة الدولية، وقد منح القرار المستوطنين اليهود في فلسطين حصة من أرض فلسطين تزيد عما منحه القرار لأصحاب الأرض الأصليين. وقد وُوُجه القرار بالرفض، وتلى ذلك إعلان بريطانيا عن قرارها بإنهاء انتدابها على فلسطين في آب ١٩٤٨.
اما الحركة الصهيونية في فلسطين، فقد حرّكَت مجموعاتها المسلحة بعد صدور قرار التقسيم حيث شَنَّت عمليات ترويع عسكرية فظيعة ومتعددة ضمن خطة متكاملة استهدفت إحداث تطهير عرقي واسع النطاق وتهجير سكان المدن والقرى الفلسطينية منها وإخلاء مناطق واسعة من الأرض الفلسطينية من أصحابها وسكانها، وإتاحة تلك الأراضي للمستوطنين اليهود الذين استُقْدِموا الى فلسطين من بلدان كثيرة لغرض الاستيطان . وقد نجحت الحركة الصهيونية في فلسطين مدعومة بشبكة علاقاتها الدولية في تحقيق جزءٍ كبير من أهدافها قبل إعلان بريطانيا سحب قواتها المفاجئ في ١٥ أيار ١٩٤٨. واشتدت في ذات الوقت مقاومة الفلسطينيين بإمكاناتهم المتواضعة لعمليات الترويع والتطهير العرقي التي مارسها المستوطنون، غير أنَّ ميزان القوة العسكرية مشفوعاً بحسن الإدارة والتنظيم كان يعمل لصالح المستوطنين اليهود. وأخذت أصوات المدافع وطلقات الرصاص تصل الى مسامع سكان قرية بيت أُمَّر، فقد كانت القرى المجاورة لقريتهم تتعرض لهجوم وحدات عسكرية من المستوطنين اليهود، وقد نتج عن احتلال تلك الوحدات لقرى بيت نَتّيف وبيت جبرين وديربان وغيرها من القرى إلى تشريد أهالي تلك القرى وتهجيرهم من قراهم باتجاه القرى والبلدات الأخرى ونالت قرية بيت أُمَّر، حصتها من اللاجئين. ولأول مرَّة، شاهد ابراهيم عائلات بأكملها من رجال ونساء وأطفال من سكان تلك القرى بين ظهرانيهم، يلجئون اليهم يطلبون الدعم والمساندة، وقد استضافت العائلة في بيتها في تلك الفترة عدداً من العائلات اللاجئة . وأدت تلك الظروف الى توقيف الدراسة في المدارس الحكومية في عموم فلسطين وعلى الأخص في المناطق التي شهدت تدفق اللاجئين اليها نظراً للاضطرار لاستعمال مباني تلك المدارس في إيواء اللاجئين. وبسبب تلك الظروف، فقد خسر طلاب المدارس في تلك الفترة( ١٩٤٨/١٩٤٩) سنةً دراسية كاملة، وقد شارك ابراهيم مع غيره من أبناء بيت أُمَّر خلال تلك الفترة في مد يد العون لاؤلئك للاجئين.

كانت قوات الجيش العربي الأردني قد أخذت بالدخول الى فلسطين خلال تلك الفترة ايضاً، وأخذت مواقع لها في منطقة جبل الخليل، ولما بدأت الأخبار تتوارد عن هجوم المستوطنين على قرى فلسطينية تقع حول قرية بيت امر في المناطق التي خصصها قرار التقسيم للفلسطينيين العرب، ويعملون على ترويع سكانها وتهجيرهم، قامت قوات السرية الثالثة من قوات الجيش العربي في فلسطين بقيادة حكمت مهيار، والتي كانت تعمل تحت قيادة عبد اللة التل، بالتعاون مع الثوار من ابناء المنطقة صباح يومي ١٢ و١٣ أيار ١٩٤٨، بالهجوم على مجمع مستعمرات كفار عصيون القريبة من بيت أمر حيث دارت معركة حامية انتهت بتدمير مستعمرة كفار عصيون واستسلام بعض المستعمرات المجاورة ، وقد قُتِلَ في المعركة عشرات المسلحين من المستوطنين، وأُسِرَ ( ٢٨٦) منهم، تم نقلهم الى معسكر المَفْرَق في الضفة الشرقية من نهر الأردن، واستشهد من الجيش العربي ستة عشر جندياً، ومن الثوار عشرين مناضلاً كان منهم عبد المجيد ابو عياش ، أحد أعمام ابراهيم، وثلاثة من أبناء عمومته ؛ يوسف وموسى وعبد الحميد . اما جنود السرية الثالثة، فقد اتخذوا من أراضي مستعمرة كفار عصيون موقعاً لإقامة معسكر لقوات الجيش العربي ووحدات الحرس الوطني، وبقيت تلك القوات في مواقعها حتى ٥ حزيران ١٩٦٧. وقد أبلى ضباط وأفراد الجيش العربي بطولات في تلك المعركة، ويذكر أهالي المنطقة ما أظهره الرئيس قسيم محمد من ضباط السرية من شجاعة فائقة خلال معركة كفار عصيون ، وقد بقي هذا الضابط مسؤولاً عسكرياً في المنطقة لسنوات عديدة بعد المعركة.

كان الإنقسام العربي حول طريقة التعامل مع الأوضاع المستجدة في فلسطين بعد إعلان نشوء الكيان الصهيوني في أيار ١٩٤٨قد أخذ بالتبلور والظهور الى سطح الأحداث بشكلٍ صريحٍ وواضح ، وعلى الأخص بعد نشر تقرير المبعوث الدولي للأمم المتحدة برنادوت بعد اغتياله في ١٧ أيلول ١٩٤٨ بثلاثة أيام والذي اقترح فيه ضم الضفة الى الاردن، وبعد إعلان تشكيل حكومة عموم فلسطين في٢٣ أيلول ١٩٤٨، فقد برز في ذلك الوقت موقفين متضاربين تجسّدا في موقفي مصر والأردن من الحكومة الوليدة. لقد عكس هذا الانقسام نفسه على الفلسطينيين انفسهم وعَمَّقَ من حالة الاضطراب والإرتباك والتفكك التي كانوا يعيشونها آنئذٍ إثر النكبة التي حَّلت بهم. لقد تفشى الإنقسام والإرتباك ودخل الى كل بيتٍ في فلسطين.

لقد تمكن الكيان الصهيوني من خلق أمرٍ واقع بعد إعلان نشوءه في أيار ١٩٤٨، ولعب مساندة الدول الكبرى له، وضعف الدول العربية، واستلاب إرادتها الى الإضطرار الى توقيع اتفاقيات هدنة فيما بين الكيان الغاصب، وكل من مصر وسورية والأردن ولبنان. وقد أدى ذلك الى الإضطرار الى استيعاب مُهَجَّري المدن والقرى الفلسطينية في مخيمات لجوء أقيمت في أماكن كثيرة داخل ما تبقى من فلسطين، وخارج فلسطين في الاردن وسوريا ولبنان، وتمكن أيضاً ذلك الكيان من إدامة مخيمات اللجوء تلك .

وبالنسبة لإبراهيم، وكان قد بلغ من العمر اثني عشر سنة، فقد شهد كيف نُقل مُشَرَّدوا القرى القريبة من بيت أُمَّر وكيف جرى تجميعهم في أرضٍ قريبة من قريته تقع عند مفترق الطريق الواصل ما بين القدس والخليل حيث أقيم في ذلك الموقع مخيم العَرّوب للاجئين الفلسطينيين، وهو واحدٌ من عشرات المخيمات التي كانت قد أقيمت في ذلك الوقت. لقد كان إقامة ذلك المخيم بالنسبة لإبراهيم شاهد إثبات يومي على الجريمة التي اْرتُكِبَت بحق أبناء وطنه، بلا ذنبٍ ارتكبوه وبلا أية مبررات يقبلها عقلٌ أو منطق،…

لقد بقيت صورة مخيم اللجوء ماثلة في ذهن ابراهيم كل يوم، فبعد ان أنهى الدراسة في مدرسة القرية في عام ١٩٥٠، اضطر ابراهيم للالتحاق بمدرسة الحسين بن على في الخليل لاستكمال دراستة وتحصيل شهادة المترك. كان ابراهيم يقطع في بعض الأحيان الطريق من بيت امر الى الخليل مشيا على الأقدام ( أي لمسافة تبلغ حوالي اثنا عشر كيلومتراً)، وكان يحاول في أحيان أُخرى التقاط باص الركاب العامل على خط القدس الخليل واللحاق به للانتقال الى الخليل والوصول الى المدرسة قبل بدء الدوام الصباحي فيها. لتحقيق ذلك، كان ابراهيم يأخذ كل صباح وصلة الطريق من بيت امر الى منطقة العرّوب القريبة من تقاطع طريق القدس الخليل وهي بطول يقرب من نحوِ كيلومتر واحدٍ مشياً على قدميه، وهناك كان ينتظر وصول حافلة الركاب لتنقله الى الخليل ، أما عيونه خلال فترة الانتظار فكانت تَنْشَدُّ نحو مخيم العرّوب وسكانه،من اللاجئين ويتساءل بينه وبين نفسه ؛ لماذا لحق بشعبه كل هذا القهر والإذلال !.

َينْزِلُ بردٌ شديد في فصل الشتاء على منطقة جبل الخليل. لقد جعل هذا الأمر ابراهيم مضطراً وهو الفتىً اليافع ذو السادسة عشرة من العمر الى قضاء الليل في بيت واحدٍ من اصدقاءه . كان ذلك الصديق هو موسى الناظر. وقد نشأت علاقة قوية فيما بين ابراهيم وموسى مع مرور الأيام خلال الفتره التي قضاها ابراهيم طالباً في مدرسة الحسين بن علي. كان الصديقان يشتركان في كونهما من الطلبة المتفوقين . وفي احيانٍ أُخرى ، كان يلجأ للنوم عند صديقٍ آخر هو أحمد عباس ، وكان من الطلبة الذين اضطرت عائلتهم اللجوء الى مخيم الفوار قرب حلحول . استئجر أحمد عباس حيِّزٍ ضيق يقع فوق حانوتٍ قريبٍ من مدرسة الحسين بن علي واستخدمه كمنامة له . لقد شهد ذلك الحيز ليالٍ قضاها ابراهيم في استضافة صديقه أحمد عباس .
في ضوء تلك الظروف، اضطر ابراهيم بالطبع ان يرعى حاله بحاله وأن يعتمد على نفسه . لم تكن تلك الظروف لتفلَّ من عضده او تهز إيمانه قيد شعرة عن ضرورة استكمال الدراسة وحيازة شهادة المترك. لقد أدرك ان الجهل وتفشي الأمية في أوساط سكان القرى في فلسطين هما عاملان أساسيان في النكبة التي حلت بهم.

كان فوات ركوب الباص العامل على خط الخليل – مخيم العروب ، يضطر ابراهيم اما للعودة الى بيت امر مشياً على الأقدام او الى قضاء تلك الليلة في بيت صديقه موسى او أحمد عباس. لم تكن المنامة في بيت موسى او أحمد تزعجه. فقد كانت لقاءآتهما توفر فرصة لتبادل الأفكار والأخبار وكذلك للدراسة. كان ابراهيم يتوق لتدخين سيجارة أو أكثر بين آونةٍ وأُخرى. أما اقتناء سيجارة في الخليل ، فقد كان ذلك يتطلب شراءها. لقد وفَّرَ له فرصة الإقامة في الخليل عند أصحابه المجال لتوفير قيمة أجرة باص النقل من المصروف المخصص له . كان ذلك يُعطيه الإمكانيه لاستغلال الوفر المحقق في شراء سيجارة او اثنتين. كان يتولى عملية الشراء ابن الخليل ، صديقه موسى من دكانٍ قريبٍ من بيته.

تبدأ السنة الدراسية في تلك الأيام في بداية تشرين أول من كل عام. كان ذلك يُتيح المجال أمام الطلبة للاشتراك مع أبناء بلداتهم ونساءها في قطاف ثمار الموسم من أعنابٍ وفواكه وزيتون . كان دخل الأُسر يعتمد على غلال الموسم الذي يتم قطافه وتسويقه. كان ابراهيم وأصدقاءه يشاركون في موسم القطاف خلال شهر ايلول من كل عام. كان جميع أفراد الأسر يلعبون دوراً انتاجياً ويساهمون في بناء اقتصاد العائلة.

كان الكيان الصهيوني قد تشكل ليس فقط على الأرض المحددة له في قرار التقسيم وإنما ايضاً على جزءٍ كبيرٍ من الأرض التي خُصِّصَت لإقامة الكيان العربي على أرض فلسطين. وتمكن الكيان الصهيوني الناشئ من الوصول الى اتفاقيات هدنه مع كل من مصر والاردن وسوريا ولبنان خلال الشهور السبعة الاولى من عام ١٩٤٩، ونجح في تثبيت خطوط وقف إطلاق النار كخطوط شبه حدودية بين الأجزاء التي احتلها من فلسطين والدول العربية المحيطة به .

اما الحكومة الاردنيه، فقد اصدرت في ٢٠ كانون اول ١٩٤٩ قانون جنسية اضافي لقانون الجنسية الصادر في عام ١٩٢٨منحت بموجبه جميع الفلسطينيين المقيمين في الضفة الشرقية من نهر الاردن بتاريخ صدور القانون، وجميع سكان المناطق المدارة من قبل الجيش العربي( الاردني) غربي النهر الجنسية الاردنية.

أمَّا وضع تلك المناطق التي بقيت في أيدي الجيش الاردني بعد دخوله الى فلسطين في أيار ١٩٤٨، والذي ُعِّرفَ في ذلك الوقت باصطلاح ” الضفة الغربية ” من نهر الأردن، فقد اصبح في ٢٤ نيسان ١٩٥٠ جزءاً من ” المملكة الأردنية الهاشمية ” بعد إجراء أول انتخابات نيابية في ضفتي المملكة الجديدة وإعلان وحدة الضفتين. فمنذ ذلك الوقت، أصبحت بيت أُمَّرْ إحدى قرى المملكة الجديدة تخضع لقوانينها وأنظمتها.

أمضى ابراهيم اربع سنوات يتلقى التعليم الثانوي في مدرسة الحسين بن علي في الخليل. لقد امتدت تلك السنوات ما بين عامي ١٩٥٠ و١٩٥٤. كانت تلك السنوات مفعمة بالحركة والأحداث.
فقبل اربعة شهورٍ فقط من إعلان وحدة الضفتين ، أي في ٨ كانون الاول ١٩٤٩، صدر قرار عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بتأسيس وكالة دولية لتقديم العون والإغاثة وكذلك لتشغيل اللاجئين الفلسطينيين .
بالنسبة لابراهيم ، فقد كان ذلك يعني أن الجزء الذي تم تشريده من شعبه اصبح يتم التعامل معه بصفة جديدة تحت مسمى ” لاجئ “. إذن ، لقد تغير المشهد . فالفلسطيني الذي كان مواطناً في بلده اصبح الآن لاجئاً ولم يعد مواطناً في مخيم اللجوء الذي أقيم لإعاشته. وأصبح فلسطينيوا الأجزاء التي أقامت اسرائيل كيانها الصهيوني عليه مواطنون يحملون الجنسية الإسرائيلية. ومُنِح َمواطنوا ذلك الجزء من فلسطين الذي سُمِّيَ بالضفة الغربية الجنسية الأردنية. ووجد فلسطينيوا قطاع غزة من مواطنين ولاجئين انفسهم بين ليلة وضحاها بلا مواطنة. أما الوطن الذي هُجِّروا منه ، فقد اصبح وطناً للمهاجرين اليهود الذين استُقدِموا اليه من كل نواح الأرض. كانت تلك الصورة بالذات بالنسبة لإبراهيم تعني ” النكبة ” في أوضح مظاهرها. ويتساءل ابراهيم عن معنى ومصير القرار ١٩٤ الذي كان قد صدر قبل عامٍ فقط (أي في ١١ كانون اول ١٩٤٨) من صدور قرار الجمعية العمومية للامم المتحدة بتأسيس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين …!.
ويذكر ابراهيم انّه وبعد سنة وشهورٍ ثلاث فقط من إعلان وحدة الضفتين أي في ٢٠ تموز ١٩٥١، اغتيل الملك عبدالله أثناء دخوله المسجد الأقصى في القدس.
كان الجدل والنقاش محتدماً في كل بيت وفي كل مكان . كيف حصلت النكبة ! ولماذا حصلت ! ومن المسؤول ! وما العمل !؟؟؟؟؟؟؟؟. كانت تلك الأسئلة تثور بين طلبة مدرسة الحسين بن علي. كان تصطرع في اوساط الطلبة تيارات فكرية وسياسية متعددة ومتضاربة. فهؤلاء ينتمون لحزب التحرير ويروجون الى انماطٍ من الفكر الاسلامي السلفي . وأولئك في عصبة التحرر الوطني في فلسطين يدعون للفكر الاشتراكي الشيوعي. وغيرهم من المنتمين لحزب البعث وحركة القوميين العرب ملتزمون بالفكر القومي ويدعون اليه. حاول التحريريون جذب ابراهيم الى فكرهم ، وكذلك فعل الشيوعيون . لم يكن هذا الحراك مقتصراً على الطلبة، بل انه كان مستعراً أيضاً بين أساتذة المدرسة. فقد كان عدداً من أساتذة المدرسة ينتمون لعصبة التحرر الوطني( الاساتذة اكرم دودين- من قرية دورة / الخليل- ، جميل بنورة ، نصري قمصية – من بلدة بيت ساحور) وآخرين ينتمون للفكر القومي ( الأستاذ إلياس هلال – من بيت لحم) وبعضهم الى أحزاب ذات فكرٍ ديني أو بلا انتماء حزبي. لقد تأثر ابراهيم حتماً بهذه الأجواء وباصطراع التيارات الفكرية والسياسية . لم ينتمي ابراهيم في تلك الفترة لحزبٍ من الأحزاب. غير انه كان يتنازعه في تلك الحقبة خليطٌ من الأفكار ذات البعد اليساري، القومي، والليبرالي من جهة وذات ُبعْدٍ ديني من جهةٍ أخرى.

تأثر ابراهيم بعمق بتجربة الدراسة في مدرسة الحسين بن علي والأيام التي قضاها ابراهيم مع أصدقاءه في الخليل. بقيت في ذاكرته ليس فقط تلك السجلات الحزبية والسياسية التي عادة ما كانت تنشب بين طلاب المدرسة ولكن ايضاً الأوقات التي قضاها يستمع الى مدير المدرسة الجديد الأستاذ طلعت السيفي ، الذي كان قد حل محل الأستاذ حسني الأشهب في السنة الأخيرة من دراسته في المدرسة، وهو يعزف على آلة العود امام طلبة المدرسة. لقد كان الأستاذ السيفي محباً للفن والموسيقى، وقد شجع طلبة المدرسة ممن وجد انهم يمتلكون موهبة العزف وإغناء على ممارسة تلك المواهب، وقد نظَّمَ لهذه الغاية نشاطات ترفيهية للطلبة جعل الطلاب يحيونها ويقومون بها. لقد وسَّعَ الاسلوب الذي انتهجه مدير مدرسته الجديد مدارك ابراهيم حول عملية التعلم وأهمية تنوع محتوياتها، وترك ذلك اثرأً عميقاً في شخصية ابراهيم وفي مذاقاته وهواياته واهتماماته الحياتية .

على الرغم من احتدام الصراع بين التيارات السياسية والفكرية في أوساط طلبة مدرسة الحسين بن علي في ذلك الوقت وانشغال الطلبة بها بحثاً عن أجوبة للأسئلة المثارة ، الا أن ابراهيم لم يسمح لها ان تؤثر على دراسته، فقد بقي ابراهيم يتبوأ مراكز متقدمة من النتائج خلال سني دراسته الأربعة في المدرسة . وقد توَّجَها في امتحانات مترك عام ١٩٥٤ بالفوز في المركز الاول على طلبة ضفتي المملكة. لقد بعث إحراز ابراهيم لهذه النتيجة الفرح والبهجة في كل بيتٍ من بيوت بيت أُمَّر فأُقيمت الولائم وذُبِحَت الذبائح ….، فابن القرية اليافع وضع قرية بيت امر في ذلك الوقت على خريطة الأحداث. ففي الحقيقة، كان ابراهيم اول من حصل من ابناء قريته على شهادة المترك في تاريخها كله . أما النتيجة التي أحرزها ابراهيم ، فقد كانت أيضاً موضع اعتزاز وافتخار لمدرسة الحسين بن علي في الخليل ولأساتذتها وموظفيها تحت إدارة مديرها الأستاذ سامح السيفي الذي تسلم مسؤولية إدارة المدرسة في السنة الأخيرة من الدراسة في المدرسة وحل محل الأستاذ المعروف حسني الأشهب الذي كان قد نُقِلَ الى دائرة المعارف للواء الخليل. وكان الاستاذ الأشهب قد ذهب بنفسه الى بيت العائلة في بيت امر ليزف للعائلة خبر فوز ابراهيم بالمركز الاول لدى معرفته بالنتائج.

٣- أيام الإنتظار المُضْني قبل الالتحاق بالجامعة: من بيت أُمَّرْ الى بيروت

إنَّ فوز ابراهيم بالمركز الاول في امتحانات المترك الأردني في عام ١٩٥٤، مَنَحَه الفرصة للحصول على بعثة دراسية للدراسة في الجامعة الأمريكية ببيروت. فقد حصلت وزارة المعارف الأردنية على تمويل برنامج بعثات الطلبة المتفوقين لتلك الجامعة من وكالة أمريكية كانت تُعْرَف في ذلك الوقت باسم ” النقطة الرابعة “. سافر ابراهيم الذي كان ايضاً من الطلبة المتفوقين في امتحانات المترك الى عمان مرورا بالقدس، وهناك، تم التقاء بالمسؤولين عن برنامج البعثات في وزارة المعارف ( الاستاذين خليل السالم ومصطفى الدباغ) بحضور ممثل ل” النقطة الرابعة”. أكد ابراهيم في اللقاء على رغبته في دراسة الهندسة في الجامعة الامريكية في بيروت. عاد بعد اللقاء في ذات اليوم الى بيت امر. لقد كانت تلك اول مرة له يزور فيها عمان . خلال وجوده في عمان التقى ابراهيم بصديقه موس الناظر الذي كان قد جاء الى عمان لنفس الغرض، فقد كان ضمن قائمة المتفوقين في امتحان المترك ايضاً. لقد انتهى اللقاء بإشعارهما بأنه سيصار الى ابلاغهما بنتيجة المقابلة خلال فترة قصيرة. كان ذلك في وقتٍ ما من شهر آب ١٩٥٤.

عاد ابراهيم الى بيت أُمَّرْ، وموسى الى الخليل. بقي الصديقان على تواصلٍ مع بعضهما البعض. وكانا بين فترة وأخرى يراجعان دائرة المعارف في الخليل للتعرف على نتائج المقابلة . كانت الأيام تمضي دون ان يصل الى ابراهيم وموسى أية أخبار. اقترب موعد بدء الفصل الدراسي في الجامعة ، لا بل انه كاد ان يبدأ والصديقان في حالة انتظار. التقى ابراهيم وموسى مع مساعد مدير دائرة المعارف في ” لواء” الخليل الأستاذ حسني الأشهب وأعربا عن قلقهما بسبب التأخر في إخطارهما بنتيجة المقابلة وطلبا تدخل المسؤولين في الدائرة لدى وزارة المعارف في عمان. كان يستمع للحديث الدائر مع الأستاذ حسني الأشهب آذن الدائرة. تفاجأ المجتمعون عندما دخل الآذن على المجتمعين وبيده خطابين في مظروفين مخطوطين باللغة الانجليزية . تَسَلَّمَ الأستاذ حسني الأشهب الخطابيين وصُعَِق عندما وجد انهما موجهان الى ابراهيم عبد الحميد ابو عياش وموسى الناظر وأنهما كانا قد وصلا الدائرة قبل أكثر من أسبوعين وأَنْ لا أحد في الدائرة أعارهما الانتباه نظراً لكونهما مخطوطان باللغة الانجليزية. َفضَّ الأستاذ حسني المظروفين ولدى الاطلاع على فحوى الخطابين تبين انهما يتضمنا قبول ممول برنامج البعثات ( النقطة الرابعة) تمويل البعثة الدراسية للجامعة الامريكية ؛ ابراهيم لدراسة الهندسة وموسى لعلوم الكيمياء، واشتمل الخطابان على جدول زمني يحدد مواعيد التواجد في الحرم الجامعي في بيروت، وموعد انعقاد امتحان الدخول للجامعة Entrance Exam، وتبين لهما كذلك أنَّ المواعيد المحددة في الخطابيين كان قد فاتت بتاريخ إطلاعهما على فحوى الخطابين . صُدِمَ الصديقان. احتارا ماذا يفعلان. لم يكن هناك مجالٌ لتوجيه اللوم لأيٍ كان. كان المهم بالنسبة لهما أن يحافظا على يحققا حلمهما في الدراسة في الجامعة الامريكية ببيروت . وبعد ان تشاورا مع بعضهما البعض، قررا ان يمضيا في السفر الى بيروت دون إبطاء وان يواجها التحديات التي فرضها عليهما الموقف الغريب.

كان يتعين بادئ ذي بدء استصدار جوازي سفر. كانت الضفة الغربية آنئذٍ لا زالت تخضع للحكم العُرْفي من الحاكم العسكري المعين من قبل الحكومة في عمان . وكان إصدار جواز السفر يتطلب موافقة ولي الامر أيضاً ذلك أنّ ابراهيم وموسى لم يكونا قد بلغا في ذلك الوقت الثامنة عشر. كان موسى قد حصل على جواز السفر، ذلك ان والده كان يعمل في دائرة المالية في الخليل، في حين ان والد ابراهيم كان يعمل في ذلك الوقت في منطقة اريحا ويقيم هناك. أمضى ابراهيم هو وصديقه يومان قبل ان يتمكن ابراهيم من استكمال متطلبات استصدار جوازي السفر.

حزم الصديقان حقائبهما وتوجها الى مطار قلنديا. كانت رحلة بيروت تغادر المطار في الأوقات المسائية. لم يكن بالإمكان عمل أي ترتيبات وحجوزات مسبقة في ذلك الوقت. كان ذلك يعني انهما سيصلان الى بيروت في وقتٍ متأخر وأنَّ عليهما هناك ان يجدا في ذلك الوقت مكاناً يمضيان فيه ليلة الوصول كي يتوجها الى الجامعة في صبيحة اليوم التالي. كانت تتملكهما رهبة لا حدود لها. تلك كانت أوَّل مرة يسافران فيها بالطائرة، وأول مرة يغادران بها الى بلدٍ آخر لا يعرفا عنه شيئاً. ولكن لم يكن أمامهما أي خيارٍ آخر سوى الإتكاء على بعضهما البعض للتغلب على صعوبات اللحظة والموقف.

كانت ترقب حركاتهما وترصد حديثهما وهي في مقعدها في الطائرة المتوجهة الى بيروت. أدركت انهما على درجة من الارتباك ويحتاجان للمساعدة. كانت في المقعد المجاور لمقعديهما. بادرت بالتخاطب معهما وعَرَضَت عليهما المساعدة. كانت سميرة ابو غزالة طالبة في السنة الثانية في الجامعة الامريكية ببيروت في طريقها للالتحاق بكُلِّيَتِها. عند وصولهما الى بيروت ، طلبت من سائق التاكسي توصيلهما الى بنسيون ربيز الكائن في شارع جان دارك القريب من المدخل الرئيسي للجامعة. أدخل هذا الامر سروراً بالغاً الى قلبيهما.

عندما وصلا البنسيون، اكتشفا ان جميع غُرَفِه مشغولة. نقلهما سائق تاكسي آخر الى فندقٍ آخر (الأُتيل الوطني) في ساحة البرج في بيروت. أخبرهما أن الفندق ” رخيص واكوَيِّسْ وإبنْ ناس” . أخيراً، تمكنا من الحصول على غرفة على سطح المبنى بسريرين. عندما خلدا للنوم ، تفاجئا بحركة ما في الغرفة. كان موظف الفندق ينقل للغرفة سريرٌ آخر أجَّره مَنامةً تلك الليلة لنزيلٍ آخر. لم يكونا يقويان على الاعتراض. قَرًَّرا ان يمضيا تلك الليلة في الغرفة، وأَنْ يتصرفا في الامر صبيحة اليوم التالي.

توجها في الصباح الباكر الى الجامعة ، وبعد ان اجتازا بوابة المدخل الرئيسي ، في المنطقة المقابلة لمبنى التشابل Chapel وهو المكانٌ المستخدم للعبادة في الجامعة وكقاعة اجتماعات ايضاً Assembly Hall ، توجَّها الى لوحة إعلانات أُقيمَت في موقعٍ قريبٍ من مدخل القاعة . هناك، تفاجئا بالمعلومات المخطوطة على اللوحة والتي تُحَدد موعداً أخيراً لامتحان القبول .Entrance Exam لؤلئك الذين فاتتهم المواعيد المحددة ىسابقاً . كانت الساعة قد بَلَغَت السابعة والنصف صباحاً عندما قرءا تلك الإرشادات. اما موعد امتحان القبول ، فكان لحُسْنِ حظِّهما بعد نصف ساعة فقط في القاعة التي يقفان أمام بوابتها. توجها قبل الموعد المحدد نحو القاعة، حاولا ان يشرحا ظرفهما لموظف الاستقبال. لكن وخلال برهة قصيرة من الوقت ، كان رئيس القاعة يشرح للطلبة المتقدمين للامتحان طريقة التعامل مع الاسئلة وأصبح بالتالي عليهما أنْ يُجيبا على اسئلة أوراق الامتحان التي سُلِّمَت لهما. كان في القاعة عشرة طلاب فقط. كان على الطلبة المتقدمين بطلبات التحاق بالجامعة أن يجتازها امتحان القبول للتحقق من درجة إتقان الطالب للغة الانجليزية . كان ذلك شرطاً لازماً لتحقيق شروط القبول.

خرجا من القاعة بعد أن أنهيا آداء الامتحان. أخذا يسألان عن موقع إقامة بعثة الطلاب الأردنيين. قيل لهما أن البعثة برئاسة الأستاذ خليل السالم ستلتقي بالطلبة الأُردنيين المبعوثين مساء ذلك اليوم في قاعة ويست هول West Hall. أخبرهما الأستاذ خليل أنَّ عليهما الانتظار للتعرف على نتيجة الامتحان.

في اليوم التالي ، توجه الصديقان الى مسجل الجامعة المعروف فريد افليحان. أخبرهما باجتيازهما الامتحان. طار الصديقان من الفرح . كان ذلك بالنسبة لهما إنجازاً حقيقياً، فقد أصبح عليهما منذ تلك اللحظه استكمال إجراءات القبول والسكن. ساعدهما في إنجاز تلك الإجراءات طالبان من الخليل كانا قد قبلا في الجامعة قبل عامٍ . رافقهما كلاً من عزت زاهده وياسر عبيد حتى استكملا كل الإجراءات المطلوبة. كان السكن داخل الحرم الجامعي قد أُشغل بالطلاب بالكامل. كانت الجامعة قد استأجرت مبنى الكِنْجْ الكائن في شارع السادات خارج الحرم الجامعي لإيواء الطلبة. كان الصوت الجهوري لروحي الشريف الذي كان قد التحق بالجامعة قبل عامٍ من التحاقهما يملئ فراغ المكان عندما وصلا الى المبنى. عاش الصديقان في إحدى غرف ذلك المبنى للجزء الأكبر من مدة الفصل الاول من سنة الفريشمان Freshman.

٤- ابراهيم ؛ سني الحياة الجامعية – ١٩٥٤ إلى ١٩٥٩
انتقل ابراهيم إذن من ” بيت أُمَّر” ، للعيش في بيروت ، وهي المدينة المعروفة آنئذٍ بانفتاحها الواسع ، اجتماعياً وثقافياً وعلمياً، والمصنفة على انها الأكثر تطوراً بين مدن المنطقة العربية من كافة النواحي التجارية والصناعية والسياحية والإجتماعية والثقافية والسياسية . وبالرغم من البيئة المحافظة التي انتمى اليها وعاش في كنفها في مجتمع قريته ” بيت اًُمَّرْ ” المحدود، ومدينة الخليل المعروفة بالتعصب والمحافظة ، فقد أظهر ابراهيم قدرة فائقة على التكيف السريع والاندماج العميق في المجتمع الجديد والبيئه المختلفة.

عاش ابراهيم في بيروت خمسة أعوام كاملة، امتدت ما بين عامي ١٩٥٤ و١٩٥٩، وكان قد التحق معه في الجامعة الأمريكية عدد من طلاب المملكة ممن اجتاز امتحان المترك لعام ١٩٥٤ كان منهم عوني المصري، طلعت كواليت، عوني الساكت، منير خوري ………….، واندمج هو ورفاقه من الطلاب في الحياة الجامعية ونشاطاتها المختلفة في المجال الثقافي والاجتماعي، والعلمي، والطلابي، والرياضي، والترفيهي ، وغيره من النشاطات. كما تَعرَّف خلال فترة دراسته على العديد من الطلاب العرب .

وقد وفّرت الحياة الجامعية في كليات الجامعة المختلفة ومن خلال نشاطاتها المتعددة والمتنوعة فرصة للتفاعل الحي مع أقرانه من الطلاب القادمين من الأقطار العربية المختلفة. وقد أضاف الى زخم التجربة التي عاشها طلاب تلك الحقبة، ان المنطقة العربية كانت لا تزال تحاول خلال تلك الفترة التخلص من الآثار المترتبة على انهيار الإمبرطورية العثمانية مع انتهاء الحرب الكونية الأولى، وغدر الدول المنتصرة في تلك الحرب بحلفائهم العرب عبر النكوص عن وعودهم التي قطعتها بريطانيا للشريف حسين بن علي الذي ساندالحلفاء بإعلان الثورة من مكة على حكم الاستبداد العثماني الذي رزحت تحت وطأته تلك الشعوب لأربعة قرون كاملة ، وعملت بعد انتصارها في تلك الحرب على إجهاض ثورتهم القومية الاولى والتنكيل بهم وإخضاعهم لألوان مختلفة من الاستعمار والهيمنة، وتدمير حلمهم القومي نحو تحقيق دولة الوحدة عبر تقسيم المنطقة العربية الى كيانات متفرقة ، وزرع كيان صهيوني على ارض فلسطين وتشريد شعبها العربي الى مخيمات اللجوء خارج أرضه ، وانتهاج سياسات لتكريس عمليات النهب المنهجي لثروات الأمة والسيطرة على مقدراتها .

على خلفية هذه الأوضاع عاش ابراهيم حياته في أرجاء الجامعة الأمريكية ، غير أن سني حياته الجامعية قد شهدت انتعاشاً في عمل ونشاط الحركات القومية العربية التي تواكبت مع إشهار جمال عبد الناصر لسياساته القومية والتحررية والوحدوية، وخوضه معركة تحرير الإرادة الوطنية والقومية، وإطلاقه مشاريع تحرير الثروات الوطنية وتنميتها وتبنيه لسياسات الإصلاح الزراعي وبرامج التصنيع وتحقيق العدالة الاجتماعية وتصديه للعدوان الثلاثي على مصر بعد قيامه بتأميم قناة السويس ومقاومته لإقامة حلف بغداد، ونجاحه في إقامة اول مشروع وحدوي عربي بين مصر وسورية في عام ١٩٥٨، ودعمه لحركات التحرر العربية والافريقيه والاسيوية من الاستعمار، وإعلانه بأن طريق الوحدة العربية وتحرير الإرادة والثروات الوطنية وتحقيق التقدم هو الطريق لتحرير فلسطين من الاستعمار الصهيوني الاستيطاني.

لقد وجد ابراهيم نفسه منذ الأيام الأولى بعد التحاقه بالجامعة منخرطاً في المظاهرات العارمة التي اندلعت داخل الحرم الجامعي في تشرين الثاني ١٩٥٤ تأييداً للثورة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي للجزائر الذي امتد منذ عام ١٨٣٠. كان قد أُعلن عن اندلاع الثورة في الأول من تشرين الثاني بشن عددٍ من العمليات العسكرية ضد قوات الاحتلال الفرنسي في جبال الأوراس. شاركت طالبات الجامعة بفعالية في تلك المظاهرات. بَقِيَ يَذْكُر الدور البارز للطالبات الاردنيات في تلك الفعاليات . لقد شهد ابراهيم سميرة ابو غزالة وانتصار دكيدك وغيرهما تشاركان في قيادة تلك المظاهرات. كانت جمعية ” العروة الوثقى ” قد لعبت دوراً حيوياً في تنظيم الاحتجاجات على الاحتلال الفرنسي للجزائر وفي مساندة ثورتها علية وضرورة المساندة العربية لتلك الثورة والتي كان جمال عبد الناصر قد أعلن برنامجاً لتقديم المساعدات لها.
في اليوم الاول لإقامته في السكن الجامعي في عمارة الكنج، تفاجئ ابراهيم بطرقات على باب غرفته في باكورة ذلك الصباح تدعوه لصلاة الصبح. عندما تبادل ابراهيم الحديث مع عددٍ من زملاءه صبيحة ذلك اليوم حول ذلك الأمر، أدرك ان بعض الطلبة من المنتمين الى حزب التحرير الإسلامي يمارسون الدعوة للالتحاق بصفوف الحزب من خلال تكريسهم لهذا النوع من النشاط. عرف أن بعض هؤلاء كان من زملاءه في مدرسة الحسين بن علي في الخليل ممن نجحوا في الالتحاق بالجامعة في بيروت.

يتطلب الحصول على الشهادة الجامعية الاولى في الجامعة الأمريكية ان يجتاز الطالب مستوى الفرشمان Freshman وهو على فصلين ويتضمن تزويد الطالب بالعلوم العمومية التأسيسية . لفت ابراهيم انتباه أساتذته وأقرانه من الطلبة بالنتائج الباهرة التي حققها في الفصل الاول من دراسته. في الواقع، فقد احرز عدد من الطلبة الأردنيين نتائج ممتازة في امتحانات ذلك الفصل وفشل عدد قليل منهم في تلك الامتحانات. أُتيح لصديقه موسى مع انتهاء الفصل الاول من سنة الفريشمان فرصة للإقامة في مبنى الفيسك هول Fisk Hall داخل ذلك الحرم ، فقرر الانتقال والسكنى في ذلك المبنى .

كان قد تَعَرَّف ابراهيم خلال تلك الفترة بصورةٍ أفضل على عددٍ كبير من الطلبة الاردنيين الذين التحقوا بعددٍ من كليات الجامعة العلمية والهندسية والعلوم الأدبية والانسانية . كان بعضهم قد تخرج من مدارس عمان ، والسلط والكرك ، ونابلس والقدس . كان من هؤلاء عوني المصري ، طلعت كواليت، منير خوري، عوني الساكت، علي سحيمات، علي اكرَيِّم، عبد الغني ابو قرورة، حيدر ابو جابر، فؤاد الريحاني، رجا حلزون، محمد جردانه، عبد الحميد شرف، ابراهيم عز الدين، انتصار جردانة ، وغيرهم . كانت تدور نقاشات حادة بين الطلبة في ذلك الوقت حول الاوضاع القائمة في بلدانهم وحول التطورات في المنطقة. لاحظ ابراهيم أن التيارات الحزبية التي كانت تعصف في اوساط الطلبة في مدرسة الحسين بن علي تعمل بكفاءةٍ أعلى في اوساط طلبة الجامعة الامريكية في بيروت. فالطلبة تتنازعهم قناعات فكرية وانتماءات حزبية تتوزع ما بين فكر حزب التحرير الديني الى فكر الحزب الشيوعي مروراً على أفكار الأحزاب القومية؛ حزب البعث وحركة القوميين العرب .

كان ابراهيم قد تَوَثَّقت صلته خلال الفصل الأول من سنة الفريشمان مع زميله في دراسة الهندسة عوني المصري القادم من مدينة نابلس والذي أحتل المركز الخامس في قائمة العشرة الأوائل بين خريجي المملكة. اتفق الصديقان على السكنى معاً، فالتحق عوني بإبراهيم في غرفة السَكَن الجامعي في عمارة الكِنْجْ وتقاسما العيش بها خلال الفصل الثاني من سنة الفريشمان .
في السنوات التي تلت السنة الأولى، بقي الصديقان يتقاسمان العيش معاً في سكنٍ واحد. فقد انتقلا في السنة الثانية من دراستهما في الجامعة الى العيش في غرفتين استئجراهما من سيدة مُسِنَّة في شقة في عمارة قائمة في منطقة رأس بيروت/ الحمرا. وفي السنوات الثلاث الأخرى قبل التخرج من الجامعة، عاش الصديقان في شقة تملكها سيدة معروفة باسم مدام حداد استئجراها في إحدى العمارات الكائنة في شارع جان دارك .

كان مطعم فيصل القريب من الجامعة من جهة وسكن شارع جان دارك الذي اختاره الصديقان من جهة أخرى، ليس فقط مكاناً لتناول وجبات طعام خفيفة، وإنما مسرحاً للجدل والنقاش المحتدم بين الطلبة المنتمون لتيارات الفكر المختلفة وعلى الأخص الفكر القومي. كان يوفر مترعاً لتفاعل الطلبة وللنضوج الفكري والسياسي.

كان امتلاك الطلبة لمهارة إتقان رياضة السباحة شرطاً ضرورياً للانتقال الى مستوى الدراسة التالي بعد الصوفومور في الجامعة. كان على الطلبة أن يتلقوا تدريباً خاصا على السباحة في أحد المسابح العائدة للجامعة، وان يجتاز الطالب امتحاناً في السباحة كي يحقق شروط الانتقال. لم يكن ابراهيم ماهراً في رياضة السباحة عندما التحق بالجامعة لكنه كان مُلِماً بمبادئها حيث انه تلقى دروساً فيها على يد شقيقه أحمد – وكان يعمل ضابطاً في الجيش الاردني – في بركة العروب وهي بركة قديمة كانت سلطات الانتداب قد قامت بصياغتها وأعادت تشغيلها ، وقد غُذِّيَتْ البركة بالمياه من مياه أحد ينابيع القرية .

كانت الدراسة في الجامعة الأمريكية لا تُعِدَّ الطالب أكاديمياً فحسب، وإنما تُزَوِّدَه بمهارات مختلفة يحتاجها المرء في مزاولة حياته الاجتماعية والعملية بصورة صحية. كان على الطلبة خلال سني دراستهم التالية في كلية الهندسة ان يُتقنوا مهارة قيادة السيارات، وقد هَيَّئَت الجامعة للطلبة دورات متخصصة لتحقيق ذلك.

أتاحت جمعيات الطلبة المشكلة في الجامعة في مختلف المجالات الفرصة للطلبة لتعلم العمل الجماعي والنقابي والمهني، ووفرت تلك الجمعيات ( العروة الوثقى، Civic Welfare League، Cultural Society،…) الفرصة للطلبة للتبادل الثقافي والمعرفي، والتعرف الاجتماعي والتقارب بين طلبة ذوي انتماءات عرقية ومذهبية وثقافية وفكرية وسياسية متنوعة ومتعددة. كانت توفر الفرصة للتفاعل والتعايش مع الاختلاف ، والاختلاف دون الرفض للآخر المُخْتَلَف معه. شارك ابراهيم في العديد من تلك الجمعيات، وبرز مواهبه القيادية في عددٍ منها.

لقد جَذَبَت نباهة ابراهيم، وفطنته، وتفوقه، انتباه أساتذته له. لقد جعلت تلك الصفات عميد جامعته وايدنر Dean Weidner مهتماً بإبراهيم . وقد توثقت مع الأيام علاقة صداقة فيما بين ابراهيم وايدنر . كان عميد الجامعة يقيم كل اسبوع لقاءً لمدة ساعة بينه وبين طلبة صفٍ من صفوف الكلية. كان اللقاء مخصصاً لفتح باب الحوار حول مواضيع تهم طالب الهندسة بعد تخرجه، ودور الطالب في مجتمعه وفي تنميته وتطويره. كان ابراهيم يشارك في تلك الحوارات.

كان هناك تفاعلٌ فيما بين حرم الجامعة العلوي المخصص لطلبة كليات العلوم الإنسانية Upper Campus وطلبة كليات الحرم السفلي Lower Campus المخصص لطلبة الهندسة والعلوم الرياضية والفيزيائية، كما كان هناك تفاعل بين هؤلاء وطالبات كلية بيروت للبنات، فقد نَظَّمَت الجامعة حفلات اجتماعية، كان يتخللها نشاطات ثقافية وترفيهيه مختلفة مثل إلقاء الشعر، واستضافة محاضرين في الفكر والسياسة، وممارسة فنون الرقص، والتمثيل المسرحي ، والقيام برحلات مشتركة الى مناطق مختلفة من لبنان كانت توفر للطلبة من مختلف الجنسيات، ذكوراً ونساءً، المجال للتفاعل الصحي والنمو في أجواء طبيعية، بعيدة عن التكلف والتعصب . كان ابراهيم نجماً في هذه النشاطات.

كان ابراهيم قد أنهى السنة الدراسية الأولى بعد الفريشمان عندما اعلن جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس، والتوقيع على صفقة لتسليح الجيش المصري مع الاتحاد السوفييتي. كان ذلك في ٢٦ تموز ١٩٥٦. لقد دفعت هذه الأحداث وإعلان الرئيس المصري دعمه لثورة الجزائر ضد الاحتلال الفرنسي الى اتفاق بريطاني فرنسي إسرائيلي بالعدوان على مصر، وقد بدأ العدوان صبيحة يوم ٢٩ تشرين اول ١٩٥٦. كان الفصل الاول من السنة الدراسية الثانية قد بدأ.

اندلعت مظاهرات الغضب في جميع أرجاء الوطن العربي احتجاجاً على العدوان وتضامناً مع مصر. تقدم طلبة الجامعة الامريكية في بيروت بطلب لتلقي التدريب العسكري على يد ضباط الجيش اللبناني. لم يتحقق ذلك ، فقد كان كميل شمعون، الرئيس اللبناني في ذلك الوقت، قد اعلن معارضته لقطع العلاقات الدبلوماسية مع الدول الغربية التي شنَّت العدوان على مصر في موقفٍ معاكسٍ لتطلعات الجماهير العربية آنئذٍ. لذا، أبرق الطلبة لقائد الجيش السوري طالبين إتاحة فرصة تلقي التدريب في سورية. جاءتهم الموافقة بلا تأخير، وطلبت اليهم الالتحاق بمعسكر القائد خالد بن الوليد في حِمْصْ . اجتمع وفد من الطلبة مع نائب رئيس الجامعة الأستاذ قسطنطين زريق، وهو المفكر القومي البارز ، وأفصحوا له عن نيتهم تلك. بارك قسطنطين زريق مبادرة الطلبة. في صبيحة اليوم الذي تم فيه ترتيب السفر الى حِمْصْ ، تفاجئ الطلبة عندما وجدوا قسطنطين زريق في وداعهم. تحرك ذلك الصباح فوج من سبعين طالباً الى حِمْص ، وهناك تلقوا تدريب عسكرياً اساسياً. تلقى الطلبة هناك التدريب على تقنيات حروب العصابات وقتال المدن. كان قَطْع نهر العاصي على الحبال تجربة بقيت في ذاكرة ابراهيم. عندما عاد الطلبة الى بيروت بعد انتهاء الدورة ، كان العدوان قد توقف. اما الجامعة، فقد بقيت على تواصل مع طلابها خلال رحلة التدريب تلك، فقد عَمَدَ على زيارتهم خلالها بعض المسؤولين من الجامعة، كما وفَّرَت للطلبة المجال لتعويض ما فقدوه من دروس خلال المدة التي انقطعوا فيها عن الدراسة. كان ابراهيم واحداً من اؤلئك الطلبة ، وبرز ضمن قائمة المتدربين وأظهر مهارة .

بقيت الاوضاع في لبنان ودول المنطقة بعد انتهاء العدوان الثلاثي في اواخر عام ١٩٥٦ ، وانسحاب القوات الغازية من قناة السويس وشبه جزيرة سيناء وقطاع غزة تشهد تطورات مثيرة ومتتابعة بقيت تترك في ذهن ابراهيم انطباعات عميقة لم تغادره بتاتاً. انقسمت الدول العربية الى معسكرين في ذلك الوقت. اتخذت بعض الأقطار العربية موقفاً في مساندة الانضمام الى حلف بغداد الذي كانت بريطانيا قد دعت الى تشكيله لمواجهة النفوذ السوفياتي المتصاعد في دول منطقة الشرق الأوسط وعلى الاخص بعد فشل العدوان الثلاثي على مصر. عَبَّرَ الرئيس اللبناني كميل شمعون مساندته للحلف. أثار ذلك غضب قطاعٍ واسعاٍ من الجماهير اللبنانية والعربية. تعمق الانقسام داخل المجتمع اللبناني مع الموقف السلبي الذي عبَّر عنه كميل شمعون من مشاريع الوحدة العربية ، وعلى الاخص بعد إعلان قيام الجمهورية العربية المتحدة فيما بين سورية ومصر في شباط ١٩٥٨، ثم إسقاط الحكم الملكي في العراق في تموز ١٩٥٨. اندلعت اضطرابات داخلية مسلحة في لبنان خلال النصف الثاني من عام ١٩٥٨مما دفع كميل شمعون لطلب التدخل الامريكي. نزلت القوات الامريكية في بيروت في تموز ١٩٥٨. انفجرت الاضطرابات ، ودَخَلَت لبنان في أزمة عميقة تمثلت في انقسامٍ واقتتالٍ أهلي. لعب صعود الحركة القومية العربية بقيادة عبد الناصر في ذلك الوقت دوراً ملموساً في إنهاء الاقتتال الأهلي في لبنان وسحب القوات الامريكية من الأراضي اللبنانية في تشرين اول ١٩٥٨.

عاش الطلاب تلك الأحداث بدقائقها. كانوا ينتقلون من منطقة الى اخرى داخل بيروت التي قسَّمَت أحياءها آنئذٍ خطوط وقف إطلاق النار. شَهدَ الطلاب في ذلك الوقت اول تمرينٍ حي في الحروب والاقتتال الأهلي في بلدٍ عربي. كان الانقسام قد أخذ اشكالاً وأبعاداً متباينة في ذلك الوقت. عرف الطلبة في ذلك الوقت أنماط الانقسام على أسس طائفية ومذهبية وسياسية وحزبية. الطائفة الواحدة انقسمت على نفسها. لم تتوقف الدراسة في الجامعة إبان ذلك الوقت. امتد الانقسام الى صفوف الطلبة وعلى الاخص اللبنانيين منهم.

كان الطلبة الأردنيين يتابعون في نفس الفترة الأحداث في الاردن . فقد شهد الاردن تلك الفترة الاضطراب أيضاً. لم تكن الأحداث في المنطقة منعزلة بعضها عن بعض. فقد تواردت الاخبار في عام ١٩٥٧ عن محاولة انقلاب عسكرية في الاردن، تلاها الإعلان عن فرض الأحكام العرفية . وقد انتهى مشروع الاتحاد الهاشمي الذي كان قد أُعلن عن قيامه بين الاردن والعراق في ١٤ شباط ١٩٥٨ بانقلاب/ ثورة تموز ١٩٥٨ العسكري في بغداد التي انتهت بسقوط حلف بغداد . نزلت القوات البريطانية الى الاردن بعد ايامٍ قلائل من سقوط الحكم الملكي في العراق. كان ذلك في ١٧ تموز ١٩٥٧. عمَّت المظاهرات المدن العربية في تلك الفترة. عاش الطلبة الأردنيون في الجامعة الامريكية في بيروت دقائق تلك الأحداث وبقيت انطباعاتها منزرعة في أذهانهم .

يتضمن نظام الدراسة في الجامعة الامريكية في بيروت برنامجاً لتدريب الطلبة تدريباً مهنياً عملياً في مجالاتٍ متنوعة. لهذا الغرض، كانت الجامعة تنظم كل عام معسكرات تدريب مهني في أماكن مختلفة من لبنان كان يتعين على الطالب ان ينضم اليها وان يجتاز التدريب العملي فيه . كما كانت الجامعة تتعاقد مع شركات ومؤسسات مختلفة في عددٍ من الأقطار العربية لإتاحة فرصة التدريب في مشاريع هندسية قيد الانشاء في تلك البلدان لأستحواذ تدريبٍ عملي وبناء الخبرات في مواقع تلك المشاريع. اجتاز ابراهيم التدريب العملي في هندسة المساحة في معسكرٍ تم تنظيمه في بلدة زغرتا في لبنان، كما أمضى تدريباً عملياً لمدة ثلاث شهور كاملة لدى شركة أجنبية( Ponery Hawaian Dredging Co) تعمل على تنفيذ ميناء الشويخ في الكويت وذلك في السنة الأخيرة من دراسته في الجامعة حيث تعلم على تقنيات زراعة الأوتاد في مياه البحر Piles Driving وعمليات التجريف Dredging وكان ذلك ضمن بنامجٍ تدريبي تم التوافق عليه ما بين الجامعة الامريكية في بيروت ووزارة الأشغال العامة في الكويت. كانت تلك الفرص تتيح لإبراهيم فرصة تنمية شخصيته المهنية وصقل معارفه النظرية بتجارب عملية.

لم يُعرف عن ابراهيم أنه مرَّ بعلاقة حبٍ عاطفية مع فتاة بعينها خلال فترة دراسته في بيروت. لكنه كان يتمتع بقدرات هائلة في تكوين صداقات وثيقة وفي اكتساب ود كل من تعرف عليه. كان ابراهيم لا يُخفي اهتمامه بالنساء وعشقه لجمال المرأة . كان يعشق المرأة ويحب الإنغماس في مباهج الحياة دون إسفاف أو تهور . كان له علاقات ٌمتعددة خلال فترة دراسته تلك مع فتيات من الوسط الجامعي ومن خارج ذلك الوسط . لقد منحته بيروت فرصة التعرف على بنت المدينة بعد ان كانت معرفته بالنساء مقصورة على بنات قريته .

٥-ابراهيم ابو عياش : الرحلة ما بين عامي ١٩٥٩ و١٩٦٦

الانتقال الى الولايات المتحدة

تخرج ابراهيم من الجامعة الامريكية في بيروت على قائمة الشرف . لقد مَكَّنَه ذلك من الحصول على بعثة دراسية لاستكمال تعليمه العالي في جامعة جورجيا تِكْ في أتلانتا في ولاية جورجيا في الولايات المتحدة الامريكية. سافر ابراهيم الى الولايات المتحدة بحراً من ميناء بيروت. أمضى خلال الوقت الذي قضاه في الباخرة التي نقلته الى هناك يمارس مع ركاب السفينة نشاطات الترفيه التي كان يُنظمها قبطان السفينة. فاز ابراهيم خلال تلك الرحلة على المتبارين المشتركين في مسابقة الشطرنج الذين كانوا على ظهر الباخرة.
بعد عامٍ من الدراسة في جامعة جورجيا تِكْ ، نجح ابراهيم في الحصول على شهادة الماجستير في الهندسة الإنشائية وكان ايضاً ضمن قائمة الشرف من الخريجين.

عمل ابراهيم بعد تخرجه من تلك الجامعة لمدة تقارب العامين لدى شركة استشارات هندسية في الولايات المتحدة الامريكية عاد بعدها الى الاردن . كان والده قد أُحيل على التقاعد في عام ١٩٦٢. خَشَت العائلة ان يُعْجَبَ ابراهيم بنمط الحياة الأمريكي وأن يدفعه ذلك للاستقرار هناك. كانت العائلة تعرف قوة الصلة الخاصة بين ابراهيم ووالده، ودفعهم ذلك لإخبار ابراهيم بأن تقاعد والده كان بسبب مرضٍ ألمَّ به. فسارع ابراهيم للعودة الى الوطن، وكان ذلك في صيف عام ١٩٦٣.
سافر ابراهيم الى نيويورك في طريق عودته الى عمان. دعاه شقيقه خليل الى زيارته الى ألمانيا خلال رحلة العودة. كان خليل يعيش في ذلك الوقت في بلدة صغيرة قرب هانوڤر . اتصل ابراهيم بصديقه موسى الناظر الذي كان يدرس للاستحواذ على شهادة الدكتوراة في الكيمياء من جامعة هارفرد. التقى الصديقان في نيويورك. أمضيا أياماً ثلاث هناك . كانت فرصة لابراهيم للتعرف على معالم تلك المدينة. حضر الصديقان عرضاً موسيقيا راقصاً لإحدى الفرق المشهورة في إحدى صالات نيويورك. أوصل موسى صديقه ابراهيم الى الميناء وودعه. هناك، صعد ابراهيم الى الباخرة المتجهة الى هامبورغ. أمضى في الباخرة اياماً عديدة قبل ان ترسو في ميناء هامبورغ. من هناك ، استقل ابراهيم القطار وتوجه الى هانوفر، ثم الى البلدة التي يعيش فيها خليل. امضى الشقيقان اياماً في المانيا قبل ان يعود الى الاردن . بالنسبة اليه ، فقد كانت تلك تجربة جديدة في حياته. لقد اطلع على نمط الحياة في المانيا التي كانت قد خرجت من الحرب الكونية، ُمدَمَّرةً، قبل اقل من عشرين عاماً. في هذا المكان، مارست النازية عنصريتها واضطهادها لليهود. وهناك في بلده، تمَّ تسديد الثمن. من هنا ومن بلدان أوروبا تم خلال الحرب تشريد يهود أوروبا وغيرها من شعوب القارة. وهناك في بلده، فلسطين، عملت الدول المنتصرة في الحرب على تفريغ فلسطين من سكانها الطبيعيين وتشريدهم الى مخيمات اللجوء في أقطار العربية المجاورة، وإحلال يهود أوروبا محلهم ، في أراضيهم وممتلكاتهم . هل هناك ظلمٌ أفْظَع من هذا الظلم الذي حل بشعبه !. كان ذلك ما يتراود في ذهن ابراهيم وهو في طريق عودته من المانيا الى الاردن.

أثْرَتْ فرصة التعليم والحياة والعمل في أمريكا شخصية ابراهيم بمزيد من المعارف والتجارب. منحته الفرصة للتعرف على نمط الحياة الغربي بكل أبعاده أدرك خلالها القوانين والمبادئ التي تحكم ذلك العالم والمعادلات والموازين التي تتحكم بسياسات الدول الكبرى بعضها مع بعض من جهة ومع دول العالمين الثاني والثالث من جهة أخرى. أدرك أنَّ للتقدم والتطور مَنْطِقَه وقوانينه، وأن لتخلف العالم الثالث أسبابه، وله منطق وقوانين يتعين تحطيمها للانفلات من قيوده. أدرك هناك أيضا كُنْه العلاقة العضوية فيما بين الولايات المتحدة والغرب من جهة وإسرائيل من جهة أخرى.
في الولايات المتحدة تلك الأيام، كانت الساحات هناك تموج بالمظاهرات والاجتماعات والحركات المناهضة للتمييز العنصري والمطالبة بالمساواة والحقوق المدنية. توفر له في أحد هذه الاجتماعات في جورجيا الالتقاء بمارتن لوثر كنج ، زعيم حركة المطالبة بالحقوق المدنية والاستماع اليه. ترك ذلك في نفس ابراهيم انطباعات بقيت تعيش معه حتى آخر العمر. كان ابراهيم لا يتوانى في المشاركة في تلك النشاطات، وفي الاستماع بين فينة وأُخرى لعزفٍ حي من موسيقى الجاز على يد موسيقيون كبار، فقد تَعَلَّمَ خلال سني دراسته الجامعية في بيروت وجورجيا فن الاستماع الى و الاستمتاع بموسيقى الشعوب، والى سيمفونيات وأعمال بيتهوفن وموتزارت، وشوبان وغيرهم والى أُغنيات مشاهير المُغَنّين السائدة في ذلك الوقت. لقد جَمَعَ في مكتبته الخاصة أسطوانات كثيرة لأعمال كبار الموسيقيين والُمغَنّين، وكان يعود اليها مراراً في خلواته الدراسية، أو في لقاءاته مع الأصدقاء والصديقات. تعلَّم ابراهيم فن التحكم بالوقت الى درجة الإتقان وكان قادراً على ممارسة نشاطاته وهواياته المتعددة والمتنوعة دون ان تتأثر نتيجة ذلك المهمة الأساس التي جاء ابراهيم الى جورجيا لتحقيقها. لقد صَقَلَت تلك التجارب شخصية ابراهيم وأكسبتها بُعداً إنسانياً وإحساسا مرهفاً بقيمة الفنون والثقافة في عملية التطور والتنمية بقي ابراهيم يحمله معه في رحلته عبر محطات العمر.

فترة قصيرة من العمل في السعودية

لم يمكث ابراهيم طويلاً في الاردن بعد عودته من الولايات المتحدة، فبعد أن اطمئن على صحة والده، قرر قبول عرضِ عمل لدى “شركة المشاريع العامة” وهي من الشركات السعودية الكبيرة العاملة في قطاع الانشاءات في المملكة العربية السعودية، وكانت مملوكة من قبل السيد جمال الحسيني ، أحد ابناء عمومة مفتي القدس الشيخ محمد أمين الحسيني، وكان يعمل مستشاراً خاصاً للملك سعود بعد حلول نكبة ١٩٤٨وحصل خلال فترة عمله على الجنسية السعودية . عمل ابراهيم لمدة لا تزيد عن عام مديراً لمشروع طريق المدينة المنورة – تبوك. كان ذلك ما بين تشرين اول ١٩٦٣ وأيلول ١٩٦٤. خلال ذلك العام، عاش ابراهيم في إحدى تريلرات Trailer المعسكر الذي أُقيم في الصحراء، وقد تَعَرَّف خلال تلك الفترة على المهندس يوسف غانم الذي شغل منصب المهندس المشرف على أعمال المشروع مندوباً عن وزارة المواصلات السعودية، وقد أمضى ابراهيم ويوسف الوقت معاً بعد فترات الدوام ونشأت منذ ذلك الوقت فيما بينهما صداقة استمرت الى ان فارق ابراهيم الحياة. لم يَنَلْ نمط الحياة في السعودية إعجاب ابراهيم، كما اكتشف ان العمل في حقل المقاولات الإنشائية هو أمرٌ لا يستهويه ولا يتفق مع طموحاته في ممارسة العمل الهندسي الاستشاري. كذلك، كان يشعر بأنَّ استمراره في العمل هناك سيكون على حساب حياته الخاصة وضد قناعاته وأسلوبه في الحياة، فقرر العودة الى عمان وكان ذلك في تشرين اول من عام ١٩٦٤.

العمل لدى المؤسسة الإقليمية لتحويل روافد نهر الاردن

كانت اسرائيل ماضيةٌ في تحصين وجودها كقلعة في خضم بحرٍ عربيٍ من العداء الشامل لها. كانت تحتاج لأكبر قدرٍ من مياه المنطقة المحيطة بها حتى تتمكن من استقدام المزيد من المهاجرين اليهود الى فلسطين وكي تستكمل العديد من مشاريع البنية الأساسية اللازمة لتحقيق أهدافها في التمكن والتوسع. كانت عيونها عل نهر الاردن وروافده ومياه الينابيع التي تغذيه منذ ان بدأت في العشرينات من القرن الماضي في العمل على تحقيق مشروع إقامة وطن قومي يهودي على أرض فلسطين . كان تحويل مياه نهر الاردن وروافده من مجاريها الطبيعية الى قنوات صناعية وأنابيب الى السهل الساحلي في فلسطين المحتلة ومن ثمَّ الى صحراء النقب، هو الهدف الذي تسعى لتحقيقه. فبالنسبة لإسرائيل، فإنَّ تعمير صحراء النقب سيمهد الطريق أمام استيعاب مئات الألوف من المهاجرين اليهود الجدد.
لمواجهة هذا الخطر ، دعا الرئيس جمال عبد الناصر في أواخر عام ١٩٦٣ وبالتحديد في ٢٣ كانون اول ١٩٦٣ لعقد مؤتمر قمة عربي للاتفاق على خطة للتصدي للمشروع الإسرائيلي الذي يؤدي ايضاً الى استنزاف جانب كبير من مياه نهر الاردن، ويحرم الدول العربية المشاطئة للنهر من مصدر حياة ٍرئيسي لسكانها العرب. وقد عُقِدَ المؤتمر في القاهره في ١٣ كانون ثاني ١٩٦٤ وتقرر في المؤتمر تأسيس هيئة لاستغلال مياه روافد نهر الاردن ووضع خطة هندسية تتضمن إقامة سد المخيبة في الاردن على مجرى نهر اليرموك، وتحويل مياه نهر بانياس في سورية، وإقامة سد تحويلي على مجرى الحاصباني في لبنان، كما تضمنت قرارات المؤتمر الحماية العسكرية لتنفيذ هذه المشروعات بواسطة قيادة عربية مشتركة. وتضمنت القرارات ايضاً انشاء هيئة تعني بالشؤون الفلسطينية للشعب الفلسطيني عُرِفَتْ باسم منظمة التحرير الفلسطينية .
بناءً على تلك القرارات، تأسست في الاردن المؤسسة الاقليمية الاردنية لاستغلال مياه نهر الاردن وروافده ، وقد تم إصدار قانون تلك المؤسسة خلال الربع الثالث من عام ١٩٦٥، وعُقِدَ في القدس في أواخر أيار ١٩٦٤ الاجتماع التأسيسي للمجلس الوطني الفلسطيني وهو الاجتماع الذي انبثقت عنه منظمة التحير الفلسطينية .
بعد عودته من السعودية في ايلول ١٩٦٤، عمل ابراهيم لدى مجلس الإعمار في عمان مهندساً مسؤولاً عن الدائرة الفنية . وقد انتدبه المجلس للعمل في تلك المؤسسة منذ تشكيلها، وأُنيطت به مسؤليات متعددة عن المشاريع التي تنوي القيام بها في الاردن. غير أن الامور في تلك المشاريع لم تستمر حسب الخطط الموضوعة، فقد قامت اسرائيل بتدمير المعدات الإنشائية العائدة لشركة المقاولون العرب المستعملة في انشاء سد المخيبة بعد شهور من بدء العمل في تنفيذها. وقد توقف العمل في تلك المشاريع إثر ذلك.

تأسيس ” المكتب العربي للهندسة والإعمار “

دفعت هذه التطورات ابراهيم الى شراء حصة المهندس سمير كتخدا الذي كان في شباط ١٩٦٦ قد اشترك مع المهندس الدكتور محمد فياض في تأسيس ” شركة المكتب العربي للهندسة والإعمار”. كان ذلك قد تمَّ في تموز من عام ١٩٦٦.

٦- ابراهيم ابو عياش – رحلةُ عُمْر

ابراهيم ابو عياش : ظروف الانتقال من العزوبية الى الزواج – ١٩٦٧/١٩٦٦

روضة البطنيج ، الفتاة الجميلة ابنة قرية بيت امر. يملك والدها محمود نمر عربة نقل تعمل على خط الاردن – الكويت وهو صديق قديم لعائلة ابو عياش.
كانت روضة قد اجتازت امتحانات التوجيهي الاردني للسنة الدراسية ١٩٦٣/١٩٦٤. عملت روضة بعد ذلك لمدة من الوقت مُعَلِّمَة في إحدى مدارس وكالة الغوث في مخيم الدهيشة ، ثُمَّ في مدْرَسة للوكالة في قرية صوريف. كان ابراهيم يعرف روضة وهي لم تزل فتاة يافعة تتلقى تعليمها الأساسي والثانوي في مدرسة إناث القرية. التقى بالفتاة بعد عودته من الولايات المتحدة في أحد أيام خريف عام ١٩٦٣ في باص النقل العامل على خط بيت أُمَّرْ، وكانت حينها ترافق إحدى قريباته. لم تنشأ علاقة حب بين ابراهيم وروضة خلال تلك اللقاءات العابرة، لكنَّ جمال الفتاة الشقراء لفت انتباه ابراهيم. بقيت صورة الفتاة، ابنة القرية في ذاكرته. لذا، فعندما اقترح عبد الحميد ابو عياش على ابنه ابراهيم الاقتران بروضة وكان ذلك خلال إحدى زيارات ابراهيم لبيت امر في بدايات شهر شباط من عام ١٩٦٧، لم يتردد ابراهيم في قبول اقتراح والده. ابراهيم يَكِنُّ لوالده مَعَزَةً خاصة، ويحتل في قلبه مَنْزِلَةً سامية. خلال تلك الزيارة، تم طلب يد روضة لإبراهيم. لم تتردد روضة في إشهار قبولها، فقد كانت صورة ابراهيم، ابن قريتها، الشاب الوسيم المتعلم ذو النظرات الثاقبة في خاطرها منذ ان التقت به خلال تلك الرحلات. فقُرِئت الفاتحة وكُتِبَ كتاب قرانهما . كان ذلك في العاشر من شباط ١٩٦٧.
عاد ابراهيم بعد ذلك الى عمان. والتحق بعمله في شركة المكتب العربي وهي الشركة التي اشترك مع عددٍ من زملاءه في تأسيسها.
تطورت الأحداث سريعاً خلال الربع الأخير من عام ١٩٦٦ والنصف الاول من عام ١٩٦٧. ففي ١٣ تشرين الثاني ١٩٦٦، هاجمت قوات إسرائيلية كبيرة قرية السموع، وهي إحدى قرى جبل الخليل، بحجة القضاء على قاعدة للفدائيين الفلسطينيين فيها. وقد اشتبكت تلك القوات مع قوات الجيش العربي الاردني المعسكرة في تلك المنطقة. في واقع الامر، كانت معركة السموع مقدمة للعدوان الإسرائيلي في الخامس من حزيران ١٩٦٧.
تسارعت التطورات خلال شهر ايار ١٩٦٧، وانتهت بعدوانٍ اسرائيليٍ سافر في ٥ حزيران ١٩٦٧ أدّى الى سقوط الأراضي العربية الفلسطينية ( الضفة الغربية وقطاع غزة ) التي تَبَقَّتْ في يد الدول العربية بعد ١٥ أيار ١٩٤٨، بالإضافة الى هضبة الجولان العربية السورية وشبه جزيرة سيناء العربية المصرية في ايدي قوات الاحتلال الإسرائيلية.
تكرر المشهد من جديد، فقد نزح آلاف السكان من منازلهم في الضفة والقطاع الى الاردن، وعانى بعضهم من اللجوء مرتين؛ نتيجة عمليات التطهير العرقي في عام ١٩٤٨، وبنتيجة العدوان الإسرائيلي والعمليات العسكرية في عام ١٩٦٧.
خلال شهري حزيران وتموز ١٩٦٧، كانت منطقة خط الهدنة ووقف إطلاق النار تعتريها حالة من الفوضى والاضطراب. كانت حركة السكان عبر تلك الخطوط ما تزال جارية بالاتجاهين. كانت قوات الاحتلال الإسرائيلي تسهل حركة السكان باتجاه الاردن. كان ابراهيم في عمان إبان تلك الحرب. لم يكن يخطر بباله على الإطلاق أنَّ الامور ستنتهي الى هذه النتائج. فبعد تسعة عشر عاماً من الإعداد العسكري من قبل كلٍ من مصر وسورية والأردن، فقد انهارت الجيوش العربية أمام العدوان الصهيوني خلال ايامٍ قليلة. لم يك ذلك سهلاً هضمه أو استيعابه على ابراهيم وعلى شعوب الأمة العربية….
عاد السؤال مطروحاً مرة أخرى، لماذا انتهت النتائج الى ما انتهت اليه….؟، اين حصل او أين يكمن الخطأ…؟ ثمَّٰ ، ما العمل…؟
كان ابراهيم مشغول البال على الأهل في بيت امر وعلى الخطيبة التي اقترن بها هناك . لقد انهارت منظومة الاتصالات مع انهيار مؤسسات الحكم في الضفة والأراضي المحتلة. استغلَّ ابراهيم وصول سيارة نقل من بيت امر الى عمان، وقرر ان يعود بها مع سائقها الى بيت امر. كانت حركة السيارات العائدة الى أراضي الضفة غير مسموح لها ان تسلك الطرق الرسمية ونقاط العبور على الجسور، كانت قوات الاحتلال قد سمحت باستعمال تلك الطرق ونقاط العبور للخارجين من الضفة. كانت بالطبع، تعمل على تفريغ الضفة وتهجير سكانها لابتلاع مزيدٍ من الأراضي من جديد.
اقنع ابراهيم سائق العربة العائد الى بيت امر ان يصاحبه في رحلة العودة. اتفقا ان يأخذ ابراهيم صفة ” مساعد سائق ” في حال ضبطهما من قبل قوات الاحتلال في طريق العودة. حَمَّل السائق صندوق من البيرة الاردنية في عربته لرشوة حرس الحدود الإسرائيليين في حال توقيفهما. أخذت العربة طريقاً ترابياً قرب أحد الجسور عند أحد نقاط العبور. كان الوقت ُ ليلاً وكان عليهم ان يتفادوا دوريات حرس الحدود الإسرائيلي العاملة في تلك المنطقة. أطفئت العربة انوارها وهي تتجه نحو النهر ، ثمَّ قطعت المياه القليلة المتبقية في نهر الاردن بعد نجاح اسرائيل في تحويل الجزء الأكبر من مياهه الى أراضي النقب في فلسطين المحتلة ، باتجاه ضفة النهر الأخرى المحتلة . كان الفصل صيفاً وكان منسوب المياه ينخفض بشكل طبيعي في النهر خلال فصل الصيف. وتقدمت العربة عبر طرقٍ زراعية الى ان نجحت في الوصول الى الطريق الرسمي الموصل الى بيت امر عند مفرق مخيم العروب على الطريق ما بين القدس والخليل. كان الطريق محفوفاً بمخاطر جمة. فقد كانت المجموعات الأولى من الفدائيين الفلسطينيين تسلك ذلك الطريق وتُهَرِّب الأسلحة الى خلايا المقاومة التي بدأت تتشكل في ذلك الوقت داخل مدن الضفة وقراها.
كان أول بيتٍ يزوره ابراهيم لدى دخوله بيت أُمّرْ هو بيت خطيبته روضة. ثمَّ عَرَجَ بعد ذلك إلى بيت العائلة. تفاجأ الأب والأم وباقي أفراد العائلة بوصول ابراهيم الى القرية في تلك الظروف. فَرِحَ ابراهيم بلقاء أفراد عائلتة وعائلة خطيبته روضة. لم يلحق بهم ضررٌ أو أذىً مباشر نتيجة العدوان والاحتلال الذي تلاه.
كانت صورة الوضع قاتمة في عيون الجميع. كان الجميع في حالة من الانشداه والإندهاش والارتباك والحيرة مما حصل …… لماذا وماذا وما العمل…!، أمضى ابراهيم عدة أيام في بيت امر. تعرض لضغطٍ شديد من والده ووالدته بضرورة العودة الى عمله في عمان بسرعة. لمْ يكن أحداً يعرف ماذا سيحصل في قادم الأيام والى اين ستتجه الامور. عَرَضَ ابراهيم خلال فترة تواجده في بيت أُمّرْ أنْ ترافقه روضة في رحلة العودة الى عمان. جرى التوافق على هذا الأمر، فالأوضاع كانت تُنْذِرُ بتطورات غير معروفة الإتجاه. لم يكن هناك مُتَّسَعٌ من الوقت لعمل أي تحضيرات. كانت هناك سيارة ستغادر بيت امر باتجاه جسر الملك حسين (جسر أللنبي) في اليوم التالي. حزما الحقائب على عجل، واستقل العروسان السيارة باتجاه الجسر. هناك كانت قوات الاحتلال قد بدأت بضبط أمور الخروج والقدوم على النحوٍ الذي يُحقق أهدافها. عندما خرج ابراهيم وروضة عبر الجسر الى الضفة الأخرى من النهر، كانت هناك نقطة عسكرية أردنية تنظم شؤون القادمين. وبعد إنهاء عمليات التسجيل، انتظر ابراهيم وصول سيارة أجرة أردنية لتنقله الى عمان هو وعروسه. وصل ابراهيم وروضة الى عمان في ٢٦ تموز ١٩٦٧. بقي هذا التاريخ ماثلاً في ذاكرة الزوجين على مر السنين.

كان ابراهيم يقطنُ في شقة استأجرها في مبنى في جبل الحسين قريب من مبنى مدرسة الصناعة الذي يقع عند حدود مخيم الحسين للاجئين الذي تأسس في ذلك المكان عقب عملية اللجوء الأولى في عام ١٩٤٨.

لم يكن ابراهيم قد هيأ الشقة لإقامته مع عروسه. كانت الشقة مُعَدَّة لعيشة العُزّاب. مع ذلك، ذهب ابراهيم وعروسه الى الشقة. كانا مُتْعَبين بعد الرحلة الشاقة ما بين بيت امر وعمان. كانت الطريق تأخذ حوالي ساعةً ونصف من الوقت قبل الاحتلال. أما رحلة الشقاء تلك، فقد استهلكت اكثر من عشر ساعات.

لم تكن عروسه قد جَهَّزت نفسها للزواج ومرافقة الزوج الى بيت الزوجية عندما اتخذا قرارهما بمغادرة بيت أُمَّرْ . كانت ” مَتِلْدا عمَّارْ ” وهي إحدى خالات روضة تعيش في عمان في تلك الفترة. لجئت روضة الى خالتها لمساعدتها في تجهيز نفسها ببعضٍ من ملابسٍ وحوائج بما تحتاجه عروس بيت أُمَّرْ في مكان إقامتها الجديد في عمان. مَتِلْدا هي إحدى بنات الجدَّة ” أوغستا “. أوغستا شخصيةٌ معروفة في بيت أُمَّرْ. كانت أوغستا تعمل “داية” في بيت أُمَّرْ قبل مغادرتها لها. في الواقع، فإنَّ أوغستا مسؤولة عن ولادة اغلب أطفال بيت أُمَّرْ. لقد عَمِلَتْ أوغستا أيضاً ممرضةً في عيادة الدكتور ” دبدوب ” في مدينة بيت لحم، وهو طبيب معروفٌ لأهالي بيت أُمَّرَ. كان المرضى من نساء بيت أُمَّرْ وغيرها من القرى المجاورة يزورون عيادة الدكتور دبدوب حالما يَلِمُّ بهم مَرَضٌ او حالة تستدعي زيارة الطبيب. كانت أوغستا قد اكتسبت المهارة في التمريض في بلاد المهجر في الأرجنتين، فقد كانت قد هاجرت هي ووالدها وأولاده الى الأرجنتين وهي في مرحلة الصبا، لكنها رافقت والدها رحلة العودة الى الوطن بعد ان أدرك انه لا يقو على الاستمرار في فراقه. فعادت الى بيت امر وفي يدها أكثر من مهارة اكتسبتها في بلاد الاغتراب. فقد عملت لدى رجوعها الى بيت امر “خياطة ” حيث خاطت أول بنطلون عَرِفَتْهُ بيت أُمَّرْ ولَبِسَه آنذاك ” محمود نمر” ، والد ” روضة”. يَذْكُر أهالي بيت أُمَّر ايضاً للجدة أوغستا انها أول من أدخل ” المكواة” الى بيت أُمَّرْ. كانت أوغستا قد خرجت الى عمّان بعد اٌحتلال الضفة وعَمِلَتْ ممرضة في مستشفى دار الشفاء الكائن في منطقة جبل الحسين من المدينة” عمان”.

كانت تلك الأيام صعبة على روضة، فلأول مرة تترك بيت الأهل في بيت امر لتشارك ابراهيم بيت الزوجية ، وهو الرجل الذي كانت قد عَرِفَتْه عن بُعْد ولمراتٍ قليلة فقط. كان حُلْمُ ثوبِ العرس وحفلة الزواج والرقص والغناء مع الدبكة ما زالا في خاطرها في ذلك الوقت، ولكن الإحتلال قَلَبَ كل شيءٍ على عقب. لقد دَمَّر كل تلك الأحلام الحلوة . كم حٓقَدَتْ وتَحْقِدُ روضة على الاحتلال البغيض !…
لإبراهيم اصدقاءٌ كُثر في عمان. كانوا يرغبون بالاحتفال بالعروسين بعد مجيئهما من بيت أُمَّرْ ؛ إبراهيم وروضة. نَظًَّم ابراهيم حفلة للأصدقاء في شقته في جبل الحسين. اجتمع نحو أربعين من أصدقاءه في الشقة. كان ذلك الاحتفال بمثابة حفل الزواج لإبراهيم وروضة.

خاض ابراهيم انتخابات المجلس السادس لنقابة أصحاب المهن الهندسية في عمان للسنوات ١٩٦٨-١٩٧٠ ونجح في تلك الانتخابات لمنصب نائب النقيب، في حين فاز بمنصب النقيب المهندس جعفر الشامي.

ابراهيم ابو عياش : تكوين الأُسرة في ظروف انطلاق المقاومة – السنوات ١٩٦٧ الى ١٩٧٠

في أيار ١٩٦٨، كان ابراهيم في زيارة للموقع المخصص لإنشاء طريق في منطقة الجفر في جنوب شرق الاردن كان المكتب الهندسي الذي انتمى اليه قد فاز بعقد تقديم خدمات تصميمه هندسياً عندما نُقِلَت اليه أخبار نقل روضة الى مستشفى الولادة في عمان . سارع ابراهيم في العودة الى عمان، وعندما وصل باب مستشفى ” دار الشفاء ” الكائن في إحدى مناطق جبل الحسين، ركض ابراهيم نحو الغرفة المحجوزة لزوجته، وهناك التقى بنبيلة ومهيتاب وهما شقيقتان زوجتي صديقيه عوني المصري وعلي سحيمات . أخبراه أنَّ روضة في غرفة التحضير للولادة . ذهب الى هناك واستمع لصرخاتها. التقى بأوغستا التي كانت تعمل منذ بعض الوقت ” ممرضة” في المستشفى. في الواقع، تابعت الجدة أوغستا أحوال روضة طيلة فترة حملها. في ذلك اليوم، طمأنت أوغستا ابراهيم عن أحوال روضة. مرت ساعات طوال قبل أن يأتيه خبر الولادة. جاءت أوغستا بالخبر. رافقت ابراهيم الى غرفة الولادة. هناك التقى بروضة وكانت مُجْهدة، وهناك ايضاً كانت الطفلة الوليدة. كانت الطفلة الوليدة لا تزال لم تتحرر بعد من آثار مخاضٍ طويل وعناء الولادة . عندما ألقى نظره على الطفلة لأول مرٍّة، اكتسحه شعورٌ جارف . لم يقو ابراهيم ان يرفع نظره عن طفلته . خَفَقَ قلبه بشدة. “انها تشبه والدتك”؛ رشقته روضة بتلك الكلمات عندما رأته يُمكن النظر بطفلته. منذ تلك اللحظة، أصبح ابراهيم أباً، وأصبحت روضة أُماً ، وأصبح لابراهيم عائلة صغيرة. منذ تلك اللحظه، وََقَعَ ابراهيم في أسر ابنته البكر وبدأت فيما بينهما علاقةٌ خاصة أخذت تنمو وتتعزز مع مرور الأيام.
ابراهيم، يَعْشَق الشعر والأدب العربي. أُعْجِبَ ابراهيم بالشاعر عبد الكريم الكرمي الملقب بأبي سلمى وأشعاره . ” سلمى ” من الأسماءالعربية المحببة على قلب إبراهيم . فعندما عَرَضَتْ عليه روضة تسمية الطفلة الوليدة باسم ” سلمى” ، لم يتردد ابراهيم في قبول العرض بل قام بتأييده بقوة. فالاسم ” سلمى ” بالنسبة لروضة هو إسمٌ لصديقة تكنُّ لها معزةٍ خاصة، ولإبراهيم ، هو اسمٌ عربي خلاّب يليق بالحضور الأَخّاذ للطفلة الوليدة . منذ تلك اللحظة،گُنِيَ ابراهيم عند التحاقه بصفوف المقاومة باسمٍ حَرَكيْ بذات الكنية ” ابو سلمى لم يعد ” ابو سلمى ” اسماً حركياً لإبراهيم فحسب فقد منحت سلمى للاسم مفعولاً حقيقياً، ولكن لحين.

كان ابراهيم مُحِباً للحياة ومَسَرَّاتها. لم تكن هموم المرحلة ومشاغل العمل لتُلْهي ابراهيم عن العودة الى البيت كل يوم ، ما أمكنه ذلك. كان أول ما يفعله عند عودته للبيت أن يحمل الطفلة سلمى ويجلس يلاعبها بانتظار انتهاء روضة من تحضير طعام الغداء. خلال سنةٍ أُخرى ، كان ابراهيم قد رُزِقَ بعبد الحميد. بالنسبة لإبراهيم ، فقد كان ذلك يُحققُ أمنية من أمانية ويُجسدُ بُعْداً من وفاءه لوالده عبد الحميد. منذ تلك اللحظة، أصبح الإسم الدارج لابراهيم بين معارفه وأصدقاءه ” أبو العبد .

مع توقع قدوم الطفل الجديد، كان ابراهيم قد انتقل الى شقة أرضية جديدة في مبنى مؤلف من طابقين، كل طابق بشقتين، يقع مقابل مدرسة الفرير في منطقة دوار مكسيم في جبل الحسين بعمان. كان المبنى من أوائل مباني عمان المجهزة بالتدفئة المركزية. كان للشقة حديقة خلفية كانت تُسْتخدم مَنْشَراً للغسيل. شهدت منطقة المنْشَر أياماً جميلة لسلمى وعبد الحميد ( عبود) وأصدقاءهما وهم يكبرون . هناك، كان ابراهيم يَرْقُب طفليه وهم يلعبون . كان يداعبهم بتعليقاته ولكنه لم يُعْرَف عنه تدليله لطفله عن طريق حمله. وكان لا يتوانى في بعض الاحيان أن يُشارِكْهُما الجهد المستهلك في تجميع عناصر لعبة من الألعاب..

كانت الأحداث في عمان تتسارع والأوضاع تتأزم منذ احتلال الضفة الغربية من المملكة من قبل اسرائيل. كانت المقاومة للاحتلال قد اتخذت من أراضي الضفة الشرقية من المملكة أرض ارتكازٍ لها تنطلق منها في سعيها لتحرير الأراضي المحتلة من المملكة، وإستعادة الحقوق العربية الفلسطينية وإعادتها الى أصحابها. نشأ عن التواجد العسكري للمقاومة في أراضي الضفة الشرقية من المملكة تعارضات تم تعميقها بحيث تحولت الى تناقضات وتصادمات مسلحة. انتقلت هذه الصدامات الى عمان وكافة أرجاء الضفة الشرقية في النصف الثاني من أيلول ١٩٧٠مع قيام الأجهزة الأمنية والعسكرية في الضفة الشرقية بعمليات عسكرية شاملة ضد الوجود العسكري للمقاومة على أراضي الضفة.
في ١٧ أيلول ١٩٧٠، دخلت قطعات عسكرية من قوات البادية والجيش الى عمان. وبعد يومين من الاشتباكات، كان ابراهيم لا يزال في منزله قرب دوار مكسيم هو وأفراد عائلته الصغيرة. كان شقيقه يوسف في ضيافتهما خلال تلك الفترة. كانت تلك الأحداث تُسَبِبُ ألماً شديداً لابراهيم. فأية خسارة تلحق بأيٍ من القوات المشتبكة ، سواء من أفراد الجيش أو من عناصر المقاومة ، هو خسارة للأمة وللقضية الفلسطينية . بنظرِ إبراهيم ، فإنَّ الكاسب الوحيد من هذا الإقتتال هو العدو الصهيوني الذي احتل ضفة المملكة الغربية، وكل فلسطين، وأجزاء من أراضي مصر وسورية، ومطامعه لم تتوقف بعد، فهو يعتبر أجزاء أخرى من المملكة، جزءاً من الوطن القومي اليهودي، و/ أو مجالاً لاستيعاب مُخْرَجات إحتلاله للأراضي العربية الفلسطينية، أي سكان تلك الأراضي ، بتهجيرهم الى خارج تلك الأراضي، أي إلى أراضي ضفة المملكة الشرقية. بالنسبة لابراهيم، فإن عدم تحرير أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة والأراضي العربية المحتلة من قوات الإحتلال وإدامة حرمان الشعب العربي الفلسطيني من حقوقه الاساسية ، وعدم العمل على توليد الشروط الضرورية لتطبيق حق العودة بالنسبة للاجئين الفلسطينيين وعدم مقاومة مشاريع الاستيطان الإسرائيلية في الأراضي المحتلة ، كل ذلك ، في نظره ، ليس سوى وصفات تُمَهد لتمدد احتلالي صهيوني جديد للأراضي العربية المجاورة لفلسطين ، وعلى الأخص لأراضي الضفة الشرقية من المملكة.
كانت المسألة بالنسبة لابراهيم ليست سوى مسألة وقت، فكما تمدد العدو الإسرائيلي باتجاه البقية الباقية من الأراضي الفلسطينية التي كانت في عهدة الجيش العربي وحمايته وبسط احتلاله عليها وعلى أراضي الجولان السوري وسيناء المصرية بعد ان تمكن من هضم ما احتله من أراضي خلال عامي ١٩٤٨ و ١٩٤٩، فسيقوم في وقتٍ لاحق بعد ان يهضم الوجبة الجديدة من الأراضي العربية بالتمدد من جديد. وعليه، فقد كانت تلك المعركة بين الجيش والمقاومة بالنسبة لابراهيم ، تمرينٌ حي في تدمير القدرات الذاتية اللازمة لمعركة التحرير وإعادة الحقوق وهبة مجانية يتم تقديمها لإسرائيل بلا مقابل .
اهتز البيت الذي كان يقيم فيه ابراهيم من شدة الاشتباكات في الشوارع المجاورة لدوار مكسيم. كان ابراهيم بالبيت هو وشقيقه يوسف وكذلك رفيقه عبد الرحمن عكاوي. كان الجميع يحتمون في غرفة البويلر من عنف القصف الذي كان يجري في ذلك الوقت. لم يكن ابراهيم متفرغاً للعمل في صفوف المقاومة. كان يمضي كل صباح الى مكتبه الكائن في أحد المباني المحيطة بالدوار الثاني من جبل عمان. كان في ذات الوقت نشيطاً في ممارسة العمل النقابي من خلال موقعه كنائب النقيب. ولكنه كان نشيطاً من نشطاء المقاومة، وقد تلقى تدريبا عسكرياً في إحدى المعسكرات التابعة لحركة فتح والواقعة في منطقة مخيم الوحدات قرب عمان، وكان يمضي بعض الوقت في زياراتٍ لقواعد الفدائيين في غور الاردن، وشارك في مناسبات متفرقة في مناوبات الحراسة الليلية لإحدى المنشآت التابعة لحركة فتح والواقعة في المنطقة الفاصلة ما بين وجبل الحسين. كان يقبل القيام بهذه المهام ويعتبرها واجباً وطنياً تمليه طبيعة المرحلة.
كان ابراهيم قد لفت انتباه كوادر “فتح” اثناء اجتماعات المهندسين في مقر النقابة. فقد كان جريئاً في طرح وجهات نظره. وكان دوماً يملك رؤىً مميزة في المسائل التي تعنى بتطوير العمل المهني والنقابي. تمَّ الاتصال بابراهيم من قبل كوادر “فتح”. قَبِلَ ابراهيم ان يُعتبر محسوباً على فتح وقَبِلَتْ “فتح” أن يبقى ابراهيم متمتعاً باستقلاليته. كان ابراهيم ينظر الى “فتح” باعتبارها حركة الشعب الفلسطيني باتجاه تحرير وطنه. لم ينظر اليها على انها حزباً سياسياً. كان يعتبرها حركة قادرة على استيعاب مختلف التيارات السياسية والفكرية من أقصى اليمين الى أقصى اليسار شريطة الإيمان بالكفاح المسلح طريقاً للتحرير. في انتخابات مجلس النقابة لدورة عام ١٩٦٨، انقسمت فتح ، فقد ترشح ابراهيم لمركز نائب النقيب في قائمة المهندس جعفر الشامي، في حين عَمَدَ تيار في “فتح” لدعم القائمة المنافسة. فازت قائمة جعفر الشامي وإبراهيم ابو عياش. عزز هذا الأمر موقع ابراهيم في ساحات العمل النقابي والمهني والسياسي في الاردن. فإبراهيم ، المهندس الشاب آنئذٍ يقتحم ساحات العمل تلك بعزيمة وثقة وعناد. استقطب ابراهيم مزيداً من اهتمامات قيادات “فتح” وكوادرها، لكنه بقي محافظاً على وقاره واستقلاليته مع عدم تأكيد أو إنكار او إشهار علاقته ب”فتح” .

جاءت وحدة عسكرية الى بيت ابراهيم ، و قامت بتفتيش البيت ثم قامت باعتقاله هو وشقيقه يوسف وكل من كان في البيت من رفاقه باستثناء زوجته روضه وطفليها سلمى وعبد الحميد الذي كان قد وُلِدَ قبل تلك الأحداث بستة عشر شهراً أي في أيار ١٩٦٨. بعد اعتقال ابراهيم، سمعت روضة دوي انفجارٍ كبير. لقد قام الجيش بتدمير سيارة ابراهيم السيتروين التي كانت تقف عند زاوية الشارع المحاذي للمبنى الذي يقيم فيه. كان ذلك في ١٩ ايلول ١٩٧٠. نُقِلَ الشقيقان ورفاق ابراهيم الى منطقة طبربورالعسكرية القريبة من عمان. كان ابراهيم لدى اعتقاله في بيجامته، وكان هو ورفاقه قد اتخذوا من غرفة البويلر في المبنى ملجأهم يحتمون فيه من عنف القصف. لم يُسمح له تغيير ملابسه. هناك في طبربور، كان يتم تكديس المعتقلين من عناصر المقاومة ومن المواطنين المتهمين بالتعاون مع المقاومة. كان البراكس الذي أودع فيه ابراهيم وشقيقه يوسف ممتلئاً عن آخره بمئاتٍ من المعتقلين. كانت تلك البراكس آت تعود لوحدة موسيقاه الجيش العربي. لم تكن مهيئة لأن تكون معتقلاً . في ذلك البراكس، التقى ابراهيم برفيقه الفتحاوي المهندس بكر عبد المنعم. أمضيا بعض الوقت معاً في ذلك المعتقل قبل نقل بكر الى معتقلٍ آخر في منطقة عوجان. لم يكن المكان ليتسع لكل هذا العدد من المعتقلين. كان يتم استدعاء المعتقلين الذين كانوا يرتدون الملابس العسكرية وكان يتم نقلهم الى غرفٍ للتحقيق والى أماكن أخرى . كانت المراحيض المتوفرة لا تكفي على الإطلاق لكل هؤلاء المعتقلين. مُنحَ المعتقلون في اليوم التالي بعض الماء للشرب، وووجبة واحدة يومياً. لم يكن المكان ليتسع لمنامة كل هؤلاء دفعةً واحدة . لذلك تناوب المعتقلون وجبات النوم. مَرَّت أيام دون أي تحقيق. أظهر ابراهيم صبراً وأناة وهو في المعتقل. عَرَفَ الكثيرين من الجيران والأصدقاء، وكوادر المقاومة في المعتقل، وعرفه كثيرون. فإبراهيم ، كان أحد النشطاء العاملين لمساندة المقاومة في سعيها لإنجاز مهمة التحرير. لم يكن يُخْفي ذلك. كان مستعداً لحمل السلاح في سبيل تحرير أرضه، لتحرير مسقط رأسه ؛ بيت أمر،الذي يرزح تحت الاحتلال هو وأراضي شعبه.

أما عن الشعب الرابض على أرض الوطن، فقد تحول بسبب هذا العدو الصهيوني إما الى لاجئ و / او الى مضطهد مقموع خاضع للاحتلال. وجود الاحتلال في حد ذاته، بالنسبة لابراهيم ، يستلزم وجود المقاومة . لم يكن ذلك أمراً يربكه ، كانت مسألة من المُسَلَّمٓات . فبعد احتلال الضفة ، التحق ابراهيم بأحد معسكرات المقاومة وتلقى التدريب العسكري فيها. لم يكن الاعتقال ليُخيفه، أو يُضْعِفَ من إرادته في مساندة المقاومة والعمل المقاوم، ومناهضة السياسات التي ترمي الى إضعاف المقاومة للمحتل الغاصب. كان تدمير القدرات الذاتية للجيش والمقاومة أمرٌ يُحْزِنه لا بل يُبْكيه.

كان ابراهيم قد انتخب في عام ١٩٦٨ لمركز “نائب نقيب ” للمجلس السادس لنقابة اصحاب المهن الهندسية للدورة للدورة الانتخابية ١٩٦٨/١٩٧٠. اما النقيب ، فكان المهندس جعفر الشامي. مَرَّرَ شقيقه يوسف لأحد الضباط المسؤولين عن معسكر الاعتقال ان نائب نقيب المهندسين الأردنيين معتقل في معسكر الاعتقال في طبربور. كان ذلك في اليوم التالي لإعلان وفاة الرئيس جمال عبد الناصر. كان جمال عبد الناصر يسعى قبل وفاته لإيقاف النزيف في القدرات العربية الناجمة عن اقتتال الجيش والمقاومة. يبدو ان الظروف المستجدة والصفة النقابية التي يحملها ابراهيم ابو عياش قد دفعت المسؤولين عن المعسكر لاتخاذ قرار بإطلاق سراح ابراهيم وشقيقه ونقلهما الى بيته قرب دوار مكسيم. كان الطريق الى دوار مكسيم لا يزال في ذلك الوقت حافلاً بمخاطر جمَّة.
نقلت عربة عسكرية ابراهيم وشقيقه الى منطقة قريبة من البيت. أصر يوسف، شقيق ابراهيم، على قائد العربة ان يتم النقل الى البيت نفسه نظراً للمخاطر المحيقة بالمنطقة في تلك الفترة. بعد إصرار، وافق على ذلك.
تعرضت روضة عند اعتقال ابراهيم لنوعٍ من المضايقات من قبل أحد أفراد الوحدة التي دخلت البيت. لم تكن الوحدة من قوات الأمن بل من قوات البادية . لم يكن سهلاً التفاهم مع افراد الوحدة وكان تعاملهم فظاً. حاولت روضة ان تحول دون اعتقال زوجها لكن دون جدوى. عندما عاد ابراهيم من المعتقل، كانت زوجته وطفليها في البيت عند وصوله.

لقد كانت روضة قد احتمت لدى عائلة ” الكردي ” التي تقيم في بيت مجاور لبيتها إثر اعتقال زوجها. كانت قد تعرضت للتهديد بعد اعتقال ابراهيم وشقيقه. خافت ان تبقى وحيدة في البيت مع طفلين أثناء غياب زوجها. دفعتها تلك الظروف للجوء الى بيت الجيران، الذين وفّروا لها الحماية والإقامة في غرفة داخل المنزل خُصِّصت لها. أمضت هناك أيام قليلة قبل ان تقرر ان تعود للبيت. كان البيت في حالة يرثى لها، كل شيء كان قد قُلِبَ على رأسه أثناء اقتحام البيت وتفتيشه. أمضت بعض الوقت تحاول ان تُعيدَ الأمور الى نوعٍ من الترتيب.

لم تكن العودة للحياة الطبيعية أمراً سهلاً خلال السنوات التي تلت أحداث ايلول ١٩٧٠. فقد َبقِيَتْ الامور في حالة من الاضطراب الأمني والفوضى السياسية حتى النصف الثاني من عام ١٩٧١. وكانت الأعمال في تلك الفترة ايضاً في مستوىً متدنٍ من النشاط. كانت الملاحقات الأمنية للمعارضة السياسية على أشدها، وتَفَشَّتْ مشاعر عدم الثقة في أوساط المجتمع.

الانخراط في العمل الوطني والنقابي والمهني : مرحلة ما بعد ١٩٧٠

لم تَنَلْ تلك التطورات من إيمان ابراهيم بضرورة المضي في حمل الرسالة بلا توانٍ او كلل، فقد شارك ابراهيم في أعمال الدورة الثامنة للمجلس الوطني الفلسطيني المنعقد في القاهرة ما بين ٢٨ شباط و٦ آذار ١٩٧١وبقي عضوًا عاملاً في جميع دورات المجلس المنعقدة منذ ذلك الوقت. كانت مشاركته الفعالة في أعمال الدورات الثامنة والتاسعة والعاشرة، وأخيرا الدورة الحادية عشر المنعقدة في القاهرة في كانون ثاني ١٩٧٣، ومساهماته القيمة في المناقشات الرامية لتقييم الاوضاع ورسم السياسات عاملاً اساسياً في انتخابه عضوًا في المجلس المركزي للمجلس الوطني الذي تقرر تشكيله خلال اجتماعات تلك الدورة. فمنذ عام ١٩٧٣، حافظ ابراهيم على عضويته المنتخبة في دورات انعقاد المجلس المركزي للمجالس الوطنية بلا انقطاع. كان موضع ثقة واحترام كافة الفصائل الوطنية الفلسطينية والمنظمات المهنية والشعبية الفلسطينية . كان ابراهيم في مشاركته في اجتماعات المجالس الوطنية والمجالس المركزية منذ عام ١٩٧١ يُمَثِل قطاع المستقلين من ابناء الشعب العربي الفلسطيني.

تلى تلك الظروف ، حالة من الصراع السياسي على تمثيل الفلسطينيين فيما بين الاردن ومنظمة التحرير الفلسطينية. تداخلت تلك الظروف مع قيام كل من مصر وسورية في ٥ تشرين اول ١٩٧٣ بحرب على اسرائيل لاستعادة الأراضي السورية والمصرية المحتلة ، عُرِفَت فيما بعد ب” حرب اوكتوبر “. استعملت الدول العربية لاول مرة في تاريخها سلاح البترول في المعركة حيث تم قطع البترول عن الدول المشاركة او المساندة للاحتلال الاسرائيلي للاراضي العربية. تمت تلك الحرب بمعزل عن أي مشاركة أردنية. لقد أضعف هذا الامر الموقف السياسي للاردن ومطالبه بخصوص الضفة الغربية. وقد تكرس ذلك في مؤتمر القمة العربي الذي انعقد في الرباط في تشرين أول من عام ١٩٧٤ والذي اعترفت فيه منظمة القمة بمنظمة التحرير ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب العربي الفلسطيني.

نتج عن قطع البترول العربي عن الدول الغربية المساندة لإسرائيل خلال حرب اوكتوبر ١٩٧٣ ارتفاع حاد في اسعار النفط. اذدادت مداخيل الدول العربية النفطية بصورةٍ هائلة نتيجة تلك الظروف. شهدت بلدان المنطقة في ضوء ذلك نهضة عمرانية كبرى وعلى الاخص في مجال مشاريع البنية التحتية.

على الرغم من حالة التوتر والتآكل في الثقة في المواقف والعلاقات ما بين الاردن الرسمي ومنظمة التحرير في الفترة التي تلت أحداث ايلول ١٩٧٠، فقد بقي ابراهيم مؤمناً بأن العلاقات الخاصة والحميمة بين الشعبين العربيين الاردني والفلسطيني هي من العمق والأهمية والضرورة بما لا تقوَ اية مواقف رسمية من أيٍ من الطرفين المساس بها او اختراقها. كان يؤمن ان تحطيم هذه العلاقة هي هدف صهيوني بامتياز. كان يؤمن ايضاً ان الكيان الصهيوني يمثل خطراً مباشراً على الاردن لا يقل عن الأخطار التي ما زالت محيقة بصمود الشعب الفلسطيني على أرضه. أما مواجهة الخطر الصهيوني، فقد كان ابراهيم على ايمانٍ تام ان الاضطلاع بتلك المهمة وان كانت ملقاة على الشعب الفلسطيني في الوطن المحتل بشكل رئيس في مرحلةٍ ما، فإنَّ التصدي لها بنجاعة هي أمر يحتاج لطاقات وإمكانات الأمة العربية. فالكيان الصهيوني مدعومُ بإمكانات وطاقات إمبريالية عالمية هائلة، وهو خطرٌ ليس على فلسطين والفلسطينيين فقط وانما يمس صميم الأمن القومي العربي برمته وحقوق ومصالح شعوبه .

كان ابراهيم شديد الحساسية تجاه أية مواقف او مبادرات او تحركات من أي طرف تمس من العلاقة الخاصة فيما بين الشعبين العربيين الاردني والفلسطيني. كان يؤمن بأن الاردن قويٌ بمواطنيه وان الاردن القوي في جبهته الداخلية هو القادر على مواجهة الاخطار الي تتهدد الاردن وفلسطين معاً. كان ابراهيم قومياً حتى النخاع. اما إحياء الهوية الفلسطينية، فكانت ينظر اليها من موقع انها مهمة نضالية وحاجة ضرورية لمواجهة الكيان الصهيوني وادعاءاته بان فلسطين هي أرض بلا شعب وان لا وجود لشعبٍ فلسطيني وان مقتضيات إقامة الكيان الصهيوني في فلسطين تستدعي ان يتم استيعاب سكان تلك الأرض في البلدان العربية المحيطة او البعيدة عن فلسطين لا فرق. لذا، كان ابراهيم يناصب العداء الشديد لأية نزعات إقليمية او جهوية ترمي الي تدمير النسيج الوطني الوحدوي الاردني. لقد تكرَّسَ نهج ابراهيم هذا في جميع النشاطات المهنية والنقابية والسياسية التي مارسها ابراهيم خلال سني حياته وعلى الاخص خلال الفترة التي تلت أحداث ايلول ١٩٧٠.

على خلفية هذه الأحداث، استمر ابراهيم في ممارسة عمله المهني من خلال شركة المكتب العربي الهندسية الاستشارية. في ذات الوقت، استمر ابراهيم في اتخاذ موقفٍ سياسي معارض خلال مرحلة السبعينات والثمانينات للسياسات الرسمية للحكومات الاردنية خلال تلك الفترة.في نفس الوقت، اذداد نشاط ابراهيم النقابي ، حيث قاد قوائم تحالف وطني سياسي معارض عريض في انتخابات نقابة المهندسين الأردنيين لعدة دورات خلال تلك الفترة او لعب دور قيادي في تشكيلها . وقد نجحت القوائم المشكلة في قيادة العمل النقابي المهني والسياسي حتى عام ١٩٨٨، ثم المشاركة الفعالة في المجالس المنتخبة حتى عام ١٩٩٢. اتخذت تلك القوائم مواقف وطنية جذرية وطالبت برفع حالة الأحكام العرفية ووقف الملاحقات الأمنية وانتهاج سياسات داخلية وخارجية مختلفة كما تَصَدَّتْ لمهام تطوير العمل الهندسي المهني وحماية حقوق المهندسين من خلال تطوير بنيته القانونية والتنظيمية وأنظمة ممارسة المهنة الهندسية. كما مارست دوراً ريادياً في تطوير البنى التنظيمية للعمل الهندسي والمهني على مستوى المنظمات الهندسية العربية المشتركة واتحاد المهندسين العرب.

شهد بيت ابراهيم ابو عياش ومكتبه خلال تلك الفترة اجتماعات متواصلة وحامية بين ممثلي القوى الحزبية السياسية المعارضة العاملة في الاردن . تمحور الحوار في تلك الفترة على تشكيل ائتلافات وبلورة تحالفات بين تلك القوى لقيادة العمل النقابي والمحافظة على الدور الوطني التقدمي للنقابة في ساحة العمل السياسي الاردني والعربي.

خلال تلك الفترة ، نَمَتْ عائلة ابراهيم ابو عياش وإزداد عدد أفرادها من طفلين ( “سلمى” ١٩٦٨/٥ و”عبد الحميد” ١٩٦٩/٥ ) الى خمسة مع قدوم “سَما” ١٩٧٢/٤و “لمُا” ١٩٧٦/٦ و”يوسف” ١٩٧٨/٩ . وكانت العائلة قد انتقلت للعيش في بيتٍ في منطقة أمًّ السمّاقْ ، غربي عمان، تم بناءه ضمن خطط مشاريع إسكان المهندسين. كان ذلك في عام ١٩٧٦.

بالرغم من المشاغل المهنية والنقابية والسياسية الكثيرة خلال عقدي السبعينات والثمانينات ، بقي ابراهيم قريباً من العائلة، وثيق الصلة بأفرادها. كرَّسَ خلال تلك الفترة عادات ومسلكيات لمسها أولاده وبناته . كان يستيقظ في الصباح الباكر هو ورفيقته أم العبد. كان الأولاد لا يزالون في أَسِرًَّتِهم في ذلك الوقت. اعتاد ابو العبد وأم العبد احتساء قهوة الصباح معاً في غرفة القَعْدَة كل يوم، مع تدخين السجائر والاستماع الى نشرة الأخبار من محطة راديو مونتي كارلو . كانت سلمى إِذْ تستيقظ في الصباح وتُحَضِّرْ نفسها للذهاب الى المدرسة ، تَلْمَح عن بُعْد شعر والدها المنفوش وغَيْمَةً من دخانِ سجائرِ الصباح تتسلل من غرفة القعدة الى ممرات البيت. كانت تحاول تفادي المرور من تلك المنطقة من البيت. سلمى تكره السجائر وما زالت. كم من المرات دخلت في اشتباكٍ كلامي مع أبوها وأمها حول التدخين ومَضارّه ولزوم تركه، ولكن بلا جدوى. كان ذلك تقليداً مُقَدَّسَاً يعنى بتكراره كل يوم.

عند الظهر، كان يَعْمَد ابو العبد أن يُشارك أولاده تناول طعام الغداء . أما بعد الغداء، فكانت تجتمع العائلة على فنجان قهوة العصر . كان يستمع الى أخبارهم خلال تلك الجلسات ويتبادلون الحديث عن الدراسة ومشاغبات الطلبة، وغير ذلك من حكايات ومطالب. بعد الانتهاء من احتساء القهوة، كان ابو العبد يقوم بتغيير ملابس العمل وارتداء بيجامة النوم، وإغلاق أباجورات غرفة النوم، ويرتمي على السرير ويذهب في قيلولة لا تقل مدتها عن أربعين دقيقة كل يوم . خلال الأربعون دقيقة تلك، كان يُمْنَع على الأولاد إصدار أي نوعٍ الصوت أو الضجة. كانت قيلولة بعد الظهر تقليداً مقدساً آخر عند ابو العبد.

أيام الجمعة، كان ابو العبد يَعْمَد على مرافقة أولاده في رحلة يأخذهم فيها إما الى مراجيح النادي الأرثوذكسي في عبدون ، أو إلى مسبح مجمع النقابات في الشميساني، أو الى مكتبة العم محمد ابو عياش او الى التسوق في سويت سوبرماركت ما بين الدوّارين الخامس والسادس في منطقة جبل عمان. كان يوم الجمعة مُخَصصاً للأولاد . كان يُتيح لأولاده الحصول على كل شيءٍ يرغبون فيه من ألعاب، وشوكلاته وسكاكر، وساندويشات، و…الخ. كان ذلك تقليداً مقدساً ايضاً يلتزم ابو العبد ممارسته أيام الجُمَع بانتظام.

كانت العائلة تجتمع في بعض أيام الجمع أو أيام العطَل وتشترك مع بعض الاقرباء او الأصدقاء في شَيِّ اللحوم او الأسماك في حديقة البيت . كان بيت ابو العبد عامراً دوماً بالضيوف من الأقرباء والسياسيين والنقابيين، أو شركاء المهنة او المهنيين . كان الأولاد يرقبون ذلك ويستمعون في بعض الأحيان للمشادات الناشبة بين المجتمعين، او الى نقاشاتهم الحامية . عندما كبر الأولاد، لاحظوا أن بعض الشخصيات التي تزور البيت كانوا يشاهدونها على شاشة التلفزيون أو يرون صورهم في الصحف والمجلات . ويذكرون من الحضور حيدر عبد الشافي وحنان عشراوي وياسر عرفات، وابراهيم بكر وأبو أياد وأبو جهاد، وأبو الهول، ومروان عبد الحميد، وغيرهم كثيرون.
كان ابراهيم على درجة عالية من الالتزام تجاه أولاده ضمن الحدود التي كان يسمح بها وقته. كان يتعامل مع أولاده بدرجة عالية من الاحترام، يستمع الى آرائهم، يُسمعهم رأيه دون أن يحاول فرضه عليهم. كان يتجنب تقريع او لوم أيٍ منهم على فعلٍ ارتكبوه أو عملٍ لم يقوموا به . كان يتفادى كيل المديح لإنجازٍ حققه أياً منهم. كان يعمل لفلسطين وفي حقل القضايا العامة ولها، ولكنه لم يطلب في اي وقتٍ من ايٍ من أولاده الالتزام بموقفٍ ما بالنسبة لتلك القضايا. كان يترك لأولاده ليبلوروا مواقفهم من تلك القضايا والتعبير عنه، ويدفعهم لممارسة حقهم في الاختيار . كان الأولاد يرقبون والدهم وهو يمارس العمل السياسي او النقابي او العام بتفانٍ وبلا تَجَمُّل ويُعطي بلا حساب.
أصبح ابو العبد بالنسبة لأولاده مثالاً يُقْتدى ، وقد انزرعت خِصاله، ومُثُله، وأساليبه في العمل ، وطريقة تفكيره ، وفي بعض المسائل تصوراته ، في كينونة ابنته سلمى وفي صلب شخصيتها. كان قد تطور مع الوقت فيما بينهما نوعٌ من التلاقي في الافكار او التناغم في الرؤى. اعتاد أنْ يُمَرر لها بين آونةٍ وأخرى مقالًا مهماً أو دراسة رأى أنْ تُلِمَّ بمحتواها ، وكانت تُرْسل له أحياناً كتاباً رأت أنَّ اطلاعه عليه ضروري وذو قيمة، أو تَدلَّه على برنامجٍ تلفزيوني او تحقيقٍ صحفي يتعين في رأيها مشاهدته .

تَذْكُر سلمى انه وفي إحدى جلسات المجلس الوطني الفلسطيني في عمان في عام ١٩٨٤، كانت تشاهد البث الحي لجلسة من جلساته ، عندما رأت والدها على الشاشة يقوم من مقعده ويصرخبأعلى صوته محتجاً على نتائج عد الاصوات التي تحقق نصاب جلسةٍ من الجلسات. كان النصاب متحققاً ، لكن الخلاف كان على العدد الذي أعلن فيه تحقق النصاب. كان ابراهيم جريئاً في التعبير عن موقفه بوضوحٍ وجلاء. لم يكن ابراهيم راغباً في حضور جلسات المؤتمر في عمان. كان يخشى ان يكرس انعقاد المجلس الوطني الانقسام في فتح وفي منظمة التحرير. أما عرفات، فكان همَّه في ذلك الوقت ان يتحقق نصاب انعقاد جلسات المجلس. لقد مورس ضغطٌ شديد على ابراهيم ابو عياش لجعله يتراجع عن قرار مقاطعته لاجتماعات المجلس، وقُطع لابراهيم الوعود بان تُبذل جهود حقيقية لرأب الصدع في صفوف فتح والمنظمة لضمان تحقيق حضوره. فقد كان انعقاد ذلك المؤتمر يأت بعد الانشقاق الذي عَصَفَ بحركة ” فتح” إثر الاقتتال الذي حصل بين الفريقين الفتحاويين في شمال لبنان ومدينة طرابلس. كان قد حصل استقطاب حاد داخل فتح ومنظمات حركة المقاومة في تلك الفترة لجأ فيها فريق الى دمشق، وغادر عرفات بسببها طرابلس على ظهر سفينة مصرية الى مصر. كانت قمة بغداد المنعقدة في عام ١٩٧٨ قد قررت مقاطعة مصر على اثر قيام أنور السادات بتوقيع اتفاقات كامب دفيد وإخراج مصر من دائرة الصراع مع الكيان الصهيوني. كانت زيارة ابو عمار لمصر في تلك الفترة تُمثل انهاكاً لمقررات المقاطعة.

تَذْكُر سلمى ايضاً أنَّ جرس التلفون قد رنَّ في البيت بعد أيام من انعقاد المجلس . سأل أحدهم عما إذا كان والدها في البيت . أجابت بنعم. أخبرت والدها . عرف والدها في حينه ان زوار الليل قادمون. ذهب الى غرفته ووضع في حقيبة صغيرة الأساسيات التي يحتاجها. بعد وقتٍ من تلك المكالمة، جاء الزوار الى البيت. كانت سلمى قد تركت البيت قبل دقائق . أُخِذَ ابراهيم من بيته في تلك الليلة. لم يعد الى البيت الا بعد أربعة وثلاثون يوماً قضاها في ” أروقتهم”. بقي ابراهيم معتقلاً لمدة أربعة وثلاثون يوماً. كان ابراهيم قبل اعتقاله بعدة شهور قد فاز في انتخابات المجلس .الرابع عشر لمركز النقيب على رأس قائمة تحالف قوى اليسار والقوى القومية والوطنية المعارضة في الاردن

One thought on “Biography

  1. الله يرحمه…ويرحم كل الشريفين الاحرار المخلصين من امثاله….فلسطين لم تمت والنصر قادم مهما طال الزمن

    والله اكبر ولله الحمد

Leave a comment